رأْبُ الصَّدع.. في التقريب بين ذاتِ القَرن وذاتِ الضّرع! / الشريف محمد يحيى
من هذا العنوان قد تبدو هذه السطور رسالة مستلهمةً من تراث “المفاضَلات” و”المفاخَرات”، الذي غصّت به مكتبة التراث العربي القديم.. لكن المحتوى مختلِف جدّا؛ إذ هي خواطر سياقية، وتداعٍ حُرّ، انقدحَت فكرته في ذهني وألحّ عليّ داعي تسطيره، بين يدي مشهد استقبال الرئيس الموريتاني بقُرون أبقار مركّبة على رؤوس بعض الأشخاص المحتفين بمقدمه خلال زيارة داخلية..
وليس في مسطرة هذا التداعي الحرّ التبويب على البُعد الفلكلوري، الذي قد يكون مصاحبا للمشهد الكرنفالي، فذلك تأصيل معرفةُ سببه تُبطِل العجب، والعَجب هو باعث هذه المادة ومصدر هذه الخاطرة.. وقد ركِب بعض رواد التواصل الاجتماعي الموريتانيّين موجة التفاعل مع المشهد بوصفه مظهرا “غرائبيّا”، وتناوله بعضهم من زاوية ساخرة، مؤوِّلِين وموجِّهين، انطلاقا مِن المنظر الشّكلي المجرّد؛ فرأى فيه بعضهم طالعا غيرَ مُريح وفألا ليس بالحسن.. وبلغ التندّر بأحد المدوّنين أن علّق على الصورة بعبارة: “الموالاة النّاطحة”، في إشارة إلى عمل القرون المألوف و”وظيفتها” الفِطريّة!
.. وإذا كان رأسُ مال البقرة الجلحاء ضرعَها، فإنّ عنوان “هيبة” البقرة القرناء ذلك العظم الناتئ حذو أُذنيها!..
وازوِرارا عن جدلية “أيهما أشرف: ضَرع البقرة أم قَرنُها؟” سوف أتنكّب سبيلَ “المفاضلة” التي غصّت بها كتب التراث الأدبيّ، واشتغل بها المصنّفون قديما وهم يقابِلون بين الأجناس والأشكال والألوان، ويُخرِجون للقارئ “حبكة تأليفية” قائمة على “صراع الأفضلية” و”تنازع البقاء”، لتتسع دائرة الانحياز، على حساب مِساحة الإنصاف، وكأنّ رسالة المؤلِّف -وهدف الكِتاب- أن ينقلب المتصفّح من جولة القراءة -ويعود من غنيمة المطالعة- بقناعة مستقرّة تدور حول ثنائية التغليب والإلغاء؛ لا تُجاوِزها!
ولو فاخرَت بقرة مدلّلة من أبقار سويسرا بقرة رشيقة من أبقار مجتمع الفُلّان ودلَّت عليها بغزارة لبنها ودُرور ضرعِها، لرفعت بقرة الفلّاني رأسها في الهواء وقالت: هذا قَرْني، فأين قَرنك؟
ومع بقرة الفلّاني بعضُ الحقّ في زهوِها وفي تَعريضِها أيضا، فلو قيل إنّ ثلاثة أرباع شخصية البقرة في قرنيها البارزين المنحنيَّين، لم يبعد أن يكون ذلك صحيحا!
وليس هذا انحيازا مني لبني وطني (الفُلّان)؛ بل هو مُدرَك انتبه له بعض المدافعين عن “حقوق الحيوان”، فسعوا للوقوف في وجه ظاهرة منع نموّ قرون الأبقار الأوربية..
وقد استوقفني عنوان مقال عرضه عليّ محرّك البحث “Google” على شكل سؤال:
“هل تكون الأبقار التي تحتفظ بقرونها أكثر سعادة؟”.. ولو كان للبقر حظّ من التفاعل مع هذا السؤال، لأجابت بقرة الفُلّان: (نعم أكثر سعادة و”كاريزما”)، ولعلّ البقرة السويسرية كانت ستُطرِق حياء، ثمّ تُسِرّ في نفسها حرقة “مصادرة قرنيها”، ثمّ تتنفّس الصعداء، وتَنصِب أُذنيها، وتقول: إن ذهب القَرنان فالبركة في الضّرع المدرار !
واحتراما لمشاعر البقرة الأوربية “المظلومة”، هبّ بعض أُولي النّجدة والحميّة والغيرة الحقوقية، وطفقوا ينافحون عن حقّ البقرة في الاحتفاظ بقَرنيها، ويدافعون عن سلامتهما و”أمنِهِما”، وفي هذا السياق أطلق بعض “حقوقيي الحيوان” مبادرات تحت شعارات رِسالية، منها مبادرتا: “من أجل أبقار بقرونها”، “من أجل كرامة حيوانات الدّخل”، ردةَ فعل على استشراء ظاهرة إزالة قرون البقر بطريقة تعسفيّة، فيها يخدّر العجل ويُناوَل المُسكّنات لتحمَّل الألم، ثمّ تنزع قرونه من منبتها قبل بلوغه ثلاثة أسابيع !
وفي اتجاهين متعاكسين، يقدّم المدافعون عن “مصادرة” قرون الأبقار بين يدي دفاعهم عن خطّهم “العنيف” مناديحَ
تفادي الأعطاب المؤلمة، وتجنّبِ حوادث النَّطح الخطيرة، على حين يتحدّث المطالبون بالمحافظة على قرني البقرة في منبتهما الفطري عن مآربَ للبقرة في قرنيها غيرَ النّطح -المتبادرِ إلى الذهن- فيرون أنها سِمة حية تشكل جُزءا لا يتجزأ من الحيوان، وأنّها تساعد الأبقار في التعارف والتواصل، وعملية الهضم، وفي الرعاية وتنظيم حرارة الجسم..
مآرِبُ تعيد شريط التداعي الحرّ إلى مربّعه الأول، مقيمة في الذهن مفارقة انتزاع قرني البقرة كَرها وعَنوةً في الحالة السويسرية، مقابل إلصاق قرنيها برأس المستقبِل البشري استِعراضا واحتفاء في مشهد الاستقبال الموريتاني.. وكما تُنكِر عينُ الفلاني رؤية بقرة جلحاء، يُعذر الفسابكة إذا دوّنوا وتفاعَلوا استغرابا وتفكُّها وهم يرون إنسانا يَستقبل ضيفَه ملصقا على رأسه قرني بقرة!