موريتانيا أمام التحديات.. بين مخاطر اللحظة وآفاق النهوض / القطب سيداتي

في ركن قصي من غرب إفريقيا، يمتد بلدي موريتانيا كجسر بين الصحراء والمحيط، وبين المشرق العربي وعمق القارة السمراء.
بلد يزخر بثروات النفط والذهب والحديد والسمك، ويملك من رصيد التعايش ما جعله واحة هدوء وسط عواصف المنطقة.
لكن خلف هذا المشهد، تتكاثف غيوم التحديات، وتتشابك خيوط الداخل والخارج، في لوحة سياسية واجتماعية وأمنية تحتاج إلى قراءة متأنية وقرار وطني حاسم.

اليوم، تقف البلاد على مفترق طرق حاسم: إما أن تتحول مواردها وموقعها إلى رافعة للنهوض، أو تترك نفسها نهبًا لصراعات الداخل ومكائد الخارج.
فاللحظة التاريخية لا ترحم المترددين، والتاريخ لا ينتظر من يتأخر عن ركب الفعل.

أولًا: التحديات الداخلية
1.    مخلفات الرق التاريخية: ما تزال آثار هذه الظاهرة قائمة في شكل فوارق اجتماعية واقتصادية، وإرث لم تندمل بعدُ كل جراحه، وهي قابلة للاستغلال من قبل من يسعى لإثارة النعرات وتقويض اللحمة الوطنية.
والمعالجة لا تكون بالشعارات، ولا بالتساوق مع المتاجرين بالقضية، بل عبر سياسات إنصاف حقيقية، وبرامج تمكين اقتصادي واجتماعي تضمن المساواة في الفرص.
2.    التوظيف الخارجي للصراعات الإثنية والهوياتية: تعمل بعض القوى الدولية والإقليمية على إذكاء الخلافات الداخلية كأداة لإضعاف الدول.
وهذا يفرض على موريتانيا أن تحصن مجتمعها بخطاب وطني جامع، يضع الهوية الجامعة فوق أي انتماء ضيق.
3.    الهجرة الخارجية: موجات الهجرة، خصوصًا القادمة من مناطق النزاع أو الفقر، تطرح تحديات متعلقة بالهوية والسوق والعمل، وتشكل ضغطًا على الخدمات العامة.
والمطلوب إدارة هذا الملف بوعي، فلا تُترك الأبواب مفتوحة بلا تنظيم، ولا تحرم البلاد من من تمكن الاستفادة من قدراتهم.
4.    الفساد الإداري والاقتصادي: أحد أكبر معوقات التنمية واستغلال الثروات، حيث تتسرب الموارد بعيدًا عن وجهتها، وتتكرس شبكات النفوذ والمحسوبية. وإصلاح هذا الوضع يتطلب تعزيز الشفافية، وتكريس نزاهة واستقلالية القضاء، وتطبيق مبدأ “من أين لك هذا؟” وربط كل مسؤولية بالمحاسبة الفعلية، لا الشكلية.
5.    تحديات السلم الأهلي: خطاب الكراهية، والاصطفافات الشرائحية أو الجهوية، باتت تشكل تهديدًا مباشرًا للسلم الاجتماعي. يجب مواجهتها عبر التعليم والإعلام والقوانين، بحيث يصبح خطاب الوحدة والتسامح هو السائد.

ثانيًا: التحديات الإقليمية والدولية
تقع موريتانيا وسط إقليم مضطرب، يشهد انقلابات عسكرية متكررة، وصراعات حدودية، وانهيارات أمنية، وتمدّد جماعات مسلحة خارج سلطة الدولة. هذه البيئة المتوترة تجعل البلاد عرضة لموجات عدم الاستقرار أو تسلل الخطر عبر الحدود، وهو ما يستوجب يقظة دائمة، وتعاونًا أمنيًا فعالًا مع الجوار، واستثمارًا أكبر في قدرات الجيش والأجهزة الأمنية.

كما أن التنافس الدولي على الموارد وممرات التجارة في غرب إفريقيا – في ظل تهلهل النظام الدولي ما بعد الحرب العالمية الثانية-  يفرض على موريتانيا أن تتحرك بذكاء دبلوماسي، بحيث تحافظ على سيادتها ومصالحها دون الانجرار إلى محاور متصارعة.

ثالثًا: المقترحات العملية لمواجهة التحديات
1.    بناء مشروع وطني جامع: يتضمن ميثاقًا سياسيًا واجتماعيًا تتوافق عليه القوى الوطنية، ويرتكز على المساواة في الحقوق والواجبات، ورفض التمييز بكل أشكاله.
2.    إصلاح المنظومة التعليمية: التعليم هو الحصن الأهم للوحدة الوطنية والتنمية.
ويجب أن يُبنى على قيم المواطنة، وأن يربط بين الهوية الوطنية والانفتاح على العالم، مع رفع جودته وربطه باحتياجات سوق العمل.
3.    تنويع الاقتصاد: عبر تطوير قطاعات الزراعة والصيد البحري والصناعات التحويلية، وعدم الاكتفاء بعائدات النفط والمعادن، بما يخلق فرص عمل ويعزز الاستقلال الاقتصادي.
4.    تطوير البنية التحتية: من طرق وموانئ ومطارات وشبكات اتصالات، خصوصًا في المناطق الداخلية المهمشة، لتقليل الفجوة التنموية وتقوية اللحمة الاقتصادية بين أجزاء البلاد.
5.    ترسيخ الشفافية والمساءلة: عبر تفعيل دور الهيئات الرقابية، وتمكين المجتمع المدني من متابعة الشأن العام، وضمان حرية الصحافة المسؤولة.
6.    إستراتيجية للهجرة: تقوم على تنظيم دخول المهاجرين، وتأمين الحدود، وتوفير برامج اندماج فعالة لمن تنطبق عليهم الشروط القانونية.
7.    تحصين الأمن الوطني: بزيادة الاستثمارات في التجهيز والتدريب، وتطوير التعاون الاستخباراتي مع الشركاء الإقليميين، مع التأكيد على مبدأ السيادة الكاملة في القرارات الأمنية.
8.    تعزيز الدور الدبلوماسي: بالتحرك النشط في المنظمات الإقليمية والقارية والدولية، لضمان أن تكون لموريتانيا كلمتها المؤثرة، وأن تستفيد من الفرص التي يتيحها موقعها كبوابة بين المغرب العربي وإفريقيا جنوب الصحراء.

خاتمة
إن موريتانيا، بما تملكه من ثروات طبيعية، وموقع جغرافي متميز، ورصيد من التعايش بين مكوناتها، ليست عاجزة عن مواجهة هذه التحديات.
لكن الشرط الحاسم هو وجود إرادة وطنية صلبة، تضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، وتدرك أن الاستقرار لا يُشترى بالوقت، ولا بمجاملات الساسة
بل يُبنى بالعمل المشترك والتضحيات الجسام.
وإذا كان الحاضر مليئًا بالتحديات، فإن المستقبل يمكن أن يكون أكثر إشراقًا إذا اجتمعت كلمة القوى الوطنية على مشروع نهوض شامل، يضمن لهذا البلد أن يظل قويًا موحدًا، قادرًا على صنع مصيره في عالم لا يرحم المتقاعسين.

القطب سيداتي
كاتب وباحث
رئيس تجمع كفاءات في خدمة الوطن