افريقيا ..وسؤال الهوية بين الاسلام والمسيحية/ حمدي جوارا
لسنا هنا في رسم او تكريس صورة قاتمة عن وضع المستعربين ، كما يتخيل البعض اننا نبحث دائما عن البؤر التي توجد فيها الأزمات وأننا نسعى دائما لخلق المشاكل أو إثارة الضغائن . بل إن أهدافنا فيما نطرح هي البحث عن أفضل الحلول للأزمات التي نعيشها سواء على مستوى الأفراد والمؤسسات والمجتمعات وحتى الدول .
ونحن كدارسين للغة العربية في إفريقيا غير العربية علما بأن شمال افريقيا هي التي يمكننا اعتبارها عربية بينما ما يتعلق بغرب القارة فغالبيتها مزيج من القبائل الافريقية السوداء المختلطة والتي قد تجد فيها بطونا عربية لكن أوضاعها تتشابه إلى حدّ كبير مع القبائل واللغات الأخرى ، وإن كان ما يربطها بالعربية هو الإسلام فقط كدين بعث به نبي عربي وجاء هذا الإسلام في قالب عربي أو بلسان عربي مبين حسب المصطلح القرآني .
وهذا الارتباط بين الإسلام والعربية دفع الكثير من الآباء والأجداد إلى ان يرسلوا أبناءهم وأقاربهم لتعليم العربية من أجل تعليم الإسلام ومن ثم يتبيّن لهؤلاء أمر دينهم ويأخذوا الإسلام من الأصل .
ولم يكن هدف الآباء أن يتعلّم هؤلاء الأبناء كي يتقلّدوا مناصب عالية في الدول – اللهم إلا سابقا باعتبار أن العربية كانت لغة الكتابة الرسمية في بعض الامبراطوريات الإسلامية في المنطقة – وأما في وقت ما بعد الاستعمار وعده الاستقلال – ولو صوريا – فإن الهدف لم يكن بالفعل أن يصبح مشايخنا مسئولين في الحكومات .
بل إنني أزعم أن كراهية المستعمرين -الكفار – لدى آبائنا المسلمين وحسّهم الديني والقومي هو الذي جعلهم يرفضون إرسال أبنائهم إلى المدارس الفرانكفونية والأنجلوفونية ، وقد سبّب هذا الرفض الشعبي في أن يلجأ المستعمرون إلى إجبار الافارقة في بعض المناطق لإرسال أبنائهم لمدارسهم أو إرسال البعض منهم .
إنه الصراع من أجل البقاء الذي أبداه آباؤنا وأجدادنا في تلك الحقبة التي قد ننظر لها أحيانا بأنهم لم يوفقّوا في اختيار هذا الرفض والضجر من تلك المدارس.
ولم يكن المستعمر يهدف لرفع الوعي ونشر العلم بل لتعليم لغتهم الاستعمارية ولكن من أجل أن يجدوا مترجمين ومخبرين يغسلون بها أدمغتهم مع الوقت ليصبحوا خدّاما مخلصين لهم ولكي يتواصل هؤلاء جميعا فيما بينهم فيما بعد .. وإن ابتعدت ديارهم ودولهم أن يتمكنوا من التواصل عبر هذه اللغة الاستعمارية .
تلك الروح المقاومة كانت متقدة لدى السابقين من مسلمي غرب افريقيا ولذا تخرجت علماء كثر ومنظرين ممن أصبحت العربية جزءا من كيانهم العقلي والفكري وهم من أسسوا المدارس النموذجية المعاصرة فيما بعد من اجل مقارعة المدارس الفرانكفونية والتي كانت تحظى بدعم استعماري وغير استعماري ..
وتقريرا لهذه الحقيقة نجد مثلا في افريقيا الأدنى ممن استعمرت أيضا بلدانهم حين جاءهم الاستعمار فإنهم لم يحاولوا استعمارهم وإنما عمل على طمس هويتهم وأجبروهم على اعتناق دينهم والذي هو المسيحية بل وعملوا على تسميتهم باسمهم فرأينا من الأفارقة من يسمون ب .. زان بول .. وكريستوف .. بول .. وسيبستيان .. ومارين ..وجاكلين … هكذا غيّروا أسماءهم بالقوة فضلا عن كون التبشير هو الأداء الذي استخدم لتنصير الكثير من اجل استعمارهم فيما بعد ..
“ثم نجد هؤلاء الأفارقة الذين تم تنصيرهم هم هم من ينصحون المسلمين بالخروج من سلطة العرب ممن فرضوا الاسلام على الافارقة وقاموا باستعباد الأجداد بينما لا يرى هؤلاء أنهم يحملون أسماء غربية استعمارية خالصة لا علاقة لها بهوية القارة وهويتها وتراثها القديم ..
ولا يرى هؤلاء أن نصف القارة الأفريقية مسيحيون والمسيحية جاء فقط عن طريق المستعمرين لماذا لا يحاربونها كما يحاربون الاسلام عند المسلمين ..
ولا يعرف هؤلاء أن الاسلام لا يفرض تغيير الأسماء فحين جاء – وحتى في مهده الأول – لم يأمر بتغيير أسماء من اعتنقوا الاسلام بالضرورة فأبوبكر الذي كان في الجاهلية كان هو هو أبو بكر في الاسلام ، وعمر الذي كان في الجاهلية كان هو عمر في الاسم ولم يتغير اسماء البعض إلا القليل الذي لا يتعد عدد أصابع اليد الواحد ممن تغيرت أسماؤهم ..
ويعمد المسلمون الجدد عادة لتغيير تيمّنا بأسماء الأنبياء والصحابة والصالحين وهذا أصبح عادة ولم ينص أي نص لا قرآنا ولا سنة على وجوب ذلك .
أعرف أن البعض قد يقول بأن الإسلام قد قام بنفس الشيئ ، فأقول إن الإسلام لم يجبر أحد بتغيير اسمه وإنما حثّ وشجع على تحسين الأسماء ورفض الأسماء التي تدعو للتشاؤم والحرب والشدة والغلظة فبدلا من التسمية ب صعب بن حرب سماه النبي صلى الله عليه وسلم ب سهل بن سعد تفاؤلا بهذا الاسم ، ولذا لم يغيّراسم عمر بن الخطاب ولا أبا بكر الصديق ولا بلال بن رباح أو غيرهم ممن دخلوا في الإسلام ولو احتفظ المسلم الجديد باسمه السابق فلا لوم ولا رفض ولا اعتراض .
لنعد لموضوعنا كان هدف الأجداد مقاومة لغة المستعمر بكل قوة وبلا هوادة فكانت وسيلتهم في ذلك هي إنشاء المدارس رغم عدم أي دعم حكومي ولا رسمي ربما حتى عربي في البداية … فاللغة العربية كانت حية وتدرّس في افريقيا قبل أن تنفجر ينابيع البترول وتدعم أموالها المدارس في القارة ، المهم بقوا في مقاومتهم ضد الموجة اللغوية العربية فأرسل الأبناء للمدارس العربية الإسلامية وأتقنوها أيما إتقان وأصبح منهم من يكتبون ويتحدثونها كأنه أحد العرب الأقحاح .
لكن المستعمر نجح في خطته التي بدأته حيث أصبح من تعلموا في مدارسه وجامعاته هم هم من حملوا شعلة الاستقلال وهم هم من أصبحوا قادة ومسئولين في تلك الدول الافريقية وأصبحوا هم الذين يستأثرون بخيرات الأوطان وبثرواتهم ومن لم يتعلم لغة المستعمر ويطنطن بها فإنه ليس متعلما ولا مثقفا حتى وإن كانت رأسه تكاد تنفجر من غزارة العلم والمعرفة وحصل على كل أنواع الشهادات ولو تخرج من أرقى الجامعات المصنفة عالميا وخاصة إذا كان ذلك الشخص ذا ثقافة عربية إسلامية فهؤلاء ومن لم يجلس ساعة في مقعد دراسي سواء لا فرق بينهم في نظرأذناب الفرانكفونية وذيول الاستعمار في منطقتنا .
ومع تلك النظرة الدونية لهم تجاه المستعربين أو دارسي العربية يتطور صراع داخلي في عقلية هؤلاء جميعا حيث يجدون انفسهم في وظائف بدائية قليلة المردود المالي في إمامة مساجد أو مدرسين في مدارس لا توفر لهم أدنى ما يستحقونه إلا ما رحم الله لأنه لا توجد هناك حكومات تدعم هذا التعليم وإن حصل فبشكل خجول لا يكاد يرى أصلا .
أضف إلى ذلك أن وضع العربية حتى عند العرب في حالة يرثى لها فهم في معظمهم لا يحترمون لغتهم وقد يستهزئون منك لو كنت افريقيا وتتحدث معهم بالفصحى وربما يقولون لك انت تتحدث بلغة قريش أو بلغة القرآن وينشئون النكت عليك ..
بل يزيد الأمر إحباطا حين ترى أحدهم وأنت تتحدث العربية كرجل افريقي أسود إذ به يسألك متى دخلت الإسلام أو هل يوجد مسلمون في بلدك .. ليستر بتلك الأسئلة الماجنة عورته الثقافية التي يجهل عن قارته وأمته ومثل هؤلاء يرون أن المسلمين لا يتجاوز الجغرافيا العربية من الخليج إلى موريتانيا وربما طنجةآخر نقطة الأمة بالنسبة لهم ، بل يزيد الأمر سوءا حين ترى عربيّا وأنت في دراستك في دولهم سائلا لك وموجها لك أسئلة غريبة ومقرفة من قبيل ، ماذا ستعمل بالعربية في بلدك وكأنه يقول لك ، يا أخي لا داعي لتتعلّم العربية لأنه لا فائدة من تعلّمها ، نفس هذا الشخص إذا رآك تتحدث الفرنسية أو الإنجليزية تراه يحترمك ويجلّك ويقول ما شاء الله ..
هل حصل هذا معكم ، هل قابلتم مثل هؤلاء ، أنا رأيته كثيرا وخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي .
الهدف من كل هذا الكلام هو إظهار كيف أصبح مستعربو افريقيا في صراع هوياتي بين حبّهم لدينهم وحبهم للغة دينهم الأصلية وبين واقع يتطلب شيئا آخر يدخل به سوق العمل ويمكنه به أن ينافح الفرانكفونيين والانجلوفونيين إما بتعلّم الفرنسية أو الإنجليزية تماما مثلهم تماما وبذلك يفوز بالحسنيين ويدخل في نادي المثقفين والكبار ..
والموجة الجديدة التي بدأت تطفو على السطح مما لم يكن موجودا في افريقيا المسلمة هو كراهية الدين بسبب تصرفات بعض العرب وربما بسبب استعباد بعض العرب للأفارقة في التاريخ القديم وبعض الممارسات الحديثة في دول عربية وربما حدث قديما فيما يعرف بأسواق النخاسة وللأسف استطاع الغرب أن يوظّف هذه التصرفات وربط الإسلام به رغم أن ديننا هو أكثر الأديان التي على وجه الأرض رفضا للعبودية والرقّ ، فيستغلّون ذلك لضرب الإسلام وإحراج المسلمين والتهكم من دراسة العربية وتعليم الدين بل ويصوّرون أن الإسلام قد جاء بالسيف ومحى أديان أجدادنا من على الأرض بالقوة والعنف الذي أدى إلى الاستعباد بل ويعمل الاستعمار على تكريس ذلك واعتبارها أخطر من الاستعمار نفسه .
ونحن هنا لا ننكر بعض هذه الحقيقة لكنه لا يمكن مقارنة ذلك بما قام به الاستعمار خلال الفترة التي قضاها وما زال يستعبدنا عبر فرض لغته علينا.
بل إن هؤلاء المتفرنسين لا يعتبرون تعلّمهم بالفرنسية أو الإنجليزية استعبادا من نوع خاص بينما يعتبرون تعليمنا نحن العربية استعبادا للعرب أو اعتناقنا للإسلام اتباعا لمن استعبدونا ولا يعتبرون أن تغيير أسمائهم أو اتباعهم للمسيحية هو نوع من الانسلاخ من هوياتهم الأصلية ..
أرأيت ما نعيشه من صراع هوياتيّ عميق … إن المثقف الافريقي يعيش تناقضات عجيبة وعميقة جدا وهذه التناقضات متجذرة في الذات الافريقية .
تلك كانت لمحة عن فتح حوار جديد ومن نوع آخر لدى دارسي العربية في افريقيا ولعل هذه الإطلالة ستبعث على التفكير من جديد لطرح إجابات وربما تساؤلات حول .. سؤال هوية في افريقيا .
باريس فرنسا