في خطوة صادمة لكل الموريتانيين، شبَّه المحامي المخضرم محمدٌ ولد إشدو وطنه، موريتانيا، بالحانوت، ووصف رؤساءه بمن يديرون الدكاكين، خلال مؤتمر صحفي خصصه للدفاع عن موكله، الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز.
إنها عبارات تجاوزت حدود الدفاع المشروع عن الموكل إلى الانزلاق المهين في حق وطن بأكمله، وطن ناضل ولد إشدو نفسه من أجله لعقود، ثم جاء اليوم ليهدم بألفاظه ما ساهم هو وغيره في بنائه.
إن القانون يضمن للمحامي حرية التعبير أثناء أدائه لمهامه، ولكن أخلاقيات المهنة تفرض عليه أن يحترم الوطن والمواطنين، وأن يكون انتماؤه للحق والعدالة قبل أي موكل، وأن لا يتحول الدفاع إلى منصة لاغتيال المعنويات الوطنية، أو الاستهزاء بتاريخ الشعوب.
موريتانيا، التي وصفها ولد إشدو بالحانوت، ليست دكانًا ولا فضاءً تجارياً. إنها وطن بناه الشهداء بدمائهم، والمثقفون بعلمهم، والمناضلون -ومن بينهم إشدو نفسه- بصبرهم وتضحياتهم. كيف لمحامٍ من هذا الطراز، ومن هذا الرصيد التاريخي، أن يسمح لنفسه بتقزيم وطنه أمام أبنائه وأمام العالم؟
صحيح أن مهنة المحاماة تمنح مجالًا واسعًا لحرية التعبير، لكنها حرية مقيدة بأخلاقيات المهنة وشرفها. ليست حرية الإساءة ولا حرية التحريض ضد الأوطان.
إن وصف موريتانيا بالحانوت ورؤساء البلد ب”الوكَافة”، لا يمكن أن يبرر مهما اشتدت مرارة الدفاع عن موكل أو تأزمت المرافعة. إن الكلمة عندما تخرج من فم مناضل ومثقف، تصبح مسؤولية مضاعفة، وعندما تكون جارحة في حق وطن كامل، فإنها تتحول إلى خيانة أخلاقية قبل أن تكون زلة لسان.
إن مثل هذا التشبيه يعد إساءة لمؤسسة رئاسة الجمهورية ممثلة في رئيس البلاد، ومخالفة لقانون الرموز، وهو أمر يظل مرفوضا ولو اختلفت الآراء وتباينت المواقف، فاحترام شخص الرئيس احترام للوطن ولرمزية وقدسية البلد، وأحرى إذا كان هذا التشبيه مصدره محامي يقدم نفسه اليوم للدفاع عن رئيس سابق.
هل يمكن لمواطن حر، مهما بلغت قسوته على وطنه، أن يصفه بمثل هذا الوصف القاتل؟ ألا يعلم ولد إشدو أن الوطن بالنسبة لشعبه هو العرض والشرف والكرامة؟ ألا يدرك أن الأوطان مهما اعتراها من فساد أو سوء تسيير، تظل أعلى من الأشخاص ومن الحكام ومن المحكومين؟
من يعرف تاريخ محمدٌ ولد إشدو، يعرف حجم نضاله، وحجم تضحياته في سبيل القضايا القومية الكبرى، من فلسطين إلى الجزائر إلى الدفاع عن حقوق الإنسان في موريتانيا.
لكنه اليوم خذلنا جميعًا. خذل تلك الأجيال التي كانت تراه رمزًا. خذل المبادئ التي ظل يدعو لها.
فلماذا يختار اليوم، وفي لحظة دفاع عن شخص متهم بالفساد، أن يهين وطناً بأكمله ويختصر تاريخه في دكان؟
لا شيء، مهما كانت شدته، يبرر هذه السقطة. لا الخصومة السياسية، ولا الغضب من النظام، ولا حتى حدة الدفاع عن موكله. فالوطن فوق الجميع، وأكبر من الجميع، وقبل الجميع.
المحاماة ليست مهنة كغيرها. إنها رسالة تحمل في طياتها شرف الدفاع عن الحق والعدل، لكنها تتطلب قبل ذلك الولاء للوطن، والانتماء للمبادئ الكبرى.
لا يجوز للمحامي، مهما كانت قناعته ومهما كانت قضيته، أن يتخلى عن احترامه لوطنه وهو يترافع، ولا أن يطلق العنان لكلماته كي تدمر القيم الوطنية.
لقد نصت مواثيق أخلاقيات المحاماة، سواء الوطنية أو الدولية، على أن المحامي يجب أن “يمارس مهمته بروح الشرف والكرامة”، وأن “يحترم المؤسسات العامة للدولة”.
فأين هذه الروح من خطاب يشبه موريتانيا بالحانوت؟
أيها الأستاذ الجليل، هذه المرة، ليس النظام هو خصمك، ولا المحكمة، ولا النيابة العامة، ولا الصحافة.
خصمك هو الوطن الذي حملته بين ضلوعك يوما، والذي انتفضت باسمه في شوارع نواكشوط عندما كنت شابًا، والذي غامرت من أجله بمستقبلك المهني مرات ومرات.
خصمك هو كل موريتاني شريف آمن بأن موريتانيا ليست صفقة، ولا صفًا للبيع، ولا حانوتًا لتصفية الحسابات.
خصمك هو كل من يحلم بموريتانيا جديدة، أكثر عدالة، أكثر كرامة، وأكثر احترامًا لتاريخها ونضال أبنائها.
نعم، نحملك المسؤولية الأخلاقية الكاملة عن هذه العبارات.
وننتظر منك، باسم تاريخك ونضالك الطويل، أن تعتذر صراحة عن هذه الإهانة في حق وطنك.
ليست الكلمات العابرة التي تهدم الأوطان، بل هي الصمت أمام الكلمات القاتلة. ونحن، أبناء موريتانيا، لن نصمت عن من يهينها، مهما كان ماضيه ومقامه.
موريتانيا ليست حانوتًا.
موريتانيا ليست ملكًا لأحد كي يقيمها أو يصغرها حسب مزاجه.
موريتانيا وطن الشهداء، وطن الحرف والكلمة، وطن التضحية والوفاء.
وكل من يسيء إليها، أيا كان، يجب أن يسمع كلمة الحق التي تذكره بقدسية هذه الأرض.
ومما يزيد هذا المشهد إيلامًا أن من كان يتغنى بحب الوطن، ويعلق في واجهة حضوره بيتًا من الشعر يقول فيه:
يا بلادي أحببت فيك ضياعي ** وبظلمي فيك رضيت وبخسي
لست أبغي في الكون عنك بديلا ** وعزائي أني بأقصاك منسي !
قد نسي هذا النشيد ساعة الوقوف أمام المنبر.
نسي أنه بظله ظل الوطن، وبمقامه مقام التاريخ.
نسي أن المحب لا يشبه معشوقه بالحانوت، ولا يرخص به مهما اشتد الخلاف أو استبد الغضب.
لقد خانه البيت الذي رفعه شعارًا، وخانته الكلمات التي كان ينبغي أن تكون له حارسة في ساعة الاختبار.
يا أستاذ محمدٌ ولد إشدو، عد إلى رشدك، واستحضر تاريخك، وضع الكلمة في موضعها، فإن حب الأوطان من الإيمان، وإن الإساءة إليها سقوط لا تبرره لا المرافعات ولا المواقف.
مصطفى سيديا / صحفي
مصطفى سيديا التقي / صحفي