البرنامج الاستعجالي بين منطق الاستعجال ورهانات الاستدامة / محمد سيداتي محمد الامين

 

قراءة تحليلية في توجهات الدولة نحو تنمية الداخل وآفاق تحقيق العدالة الترابية.

ي ظل التحديات التنموية المتزايدة، والتفاوتات المجالية الملحوظة بين مختلف الولايات، أطلقت الدولة برنامجًا استعجاليًا يهدف إلى تعميم النفاذ إلى الخدمات الأساسية في هذه الولايات. ورغم ما يحمله هذا البرنامج من وعود آنية في الاستجابة لحاجات ملحة، إلا أنه يطرح في العمق أسئلة جوهرية حول منطق التخطيط، وأدوات التنفيذ،وأفق التنمية في علاقتها بالمجال والدولة.

فهل يشكل هذا البرنامج مجرد استجابة ظرفية لوضع اقتصادي واجتماعي استدعى التدخل؟ أو هو وفاء بالتزامات وعهود مقطوعة؟ أم أنه يؤسس لتحول بنيوي في نظرة الدولة للتراب؟ وهل يمكن لبرنامج استعجالي أن يحمل في طياته بذور استدامة ؟
وكيف يمكن إعادة توجيه هذا النوع من التدخلات، ليُسهم في تحقيق العدالة الترابية، وتوطين السياسات العمومية محليا؟

هذا المقال محاولة لفهم التحولات التي يشير إليها البرنامج الاستعجالي، من خلال تحليل الخلفيات السياسية والمؤسساتية التي تحكمه، واستشراف السيناريوهات الممكنة لتطويره في اتجاه أكثر عدالة ونجاعة.

 

جاء إطلاق البرنامج الاستعجالي لتعميم النفاذ إلى الخدمات الضرورية للتنمية المحلية،بتوجيه مباشر من فخامة رئيس الجمهورية، السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، وتجسيدًا لإرادته في إحداث تحول نوعي في السياسات العمومية الموجهة نحو الداخل،مستهدفًا إحدى عشرة ولاية داخلية، وأكثر من مئتي بلدية، في عموم التراب الوطني، تشمل ولايات: الحوضين، لعصابه، كوركول، لبراكنه، الترارزة، آدرار، تكانت، كيديماغا، تيرس الزمور، وإنشيري.

 

يميز هذا البرنامج عن سابقيه، ليس فقط حجم موارده المالية التي تبلغ 260 مليار أوقية قديمة، وطابعه الاستعجالي الممتد على ثلاثين شهرًا، بل بشكل أساسي، اعتماد مقاربة مبتكرة تتجاوز التخطيط المركزي التقليدي، نحو آلية تشاركية قاعدية، منفتحة على الواقع المحلي. فقد انطلق البرنامج بسلسلة لقاءات على المستوى المحلي، في جميع عواصم المقاطعات المستهدفة، بإشراف السلطات الإدارية، استجابةً للتعليمات الواضحة، الصادرة عن معالي وزير الداخلية، وترقية اللامركزية، والتنمية المحلية، والرامية إلى إنجاح هذا المسار، شارك فيها عمد البلديات، رؤساء المصالح الفنية، ممثلو المجتمع المدني، وشخصيات مرجعية، بهدف تمكين السكان من التعبير بحرية عن أولوياتهم في القطاعات الأساسية: مثل التعليم، الصحة، الماء، الكهرباء، الزراعة، التنمية الحيوانية، تمكين الشباب، وفك العزلة، بما في ذلك مكون الصمود.

بعد جمع هذه المطالب، تم الانتقال إلى مرحلة الورشات الجهوية الموسعة تحت إشراف الوزراء المكلفين بتنظيم والإشراف على هذه الورشات، إلى جانب الولاة والحكام ورؤساء المجالس الجهوية وجميع العمد في كل ولاية،حيث جرى تحليل ومناقشة أولويات كل مقاطعة على حدة  بشفافية ومصداقية، ما أفضى إلى بلورة خطة متكاملة على مستوى الولاية، وكان لهذا المسار الجهوي أثر بالغ في تغيير تقاليد العمل التنموي عبر منح الإدارات المحلية والمجالس المنتخبة دورًا فعليًا في تحديد الأولويات، مما يعكس توجهاً واضحاً نحو ترسيخ الحكامة الترابية على أرض الواقع.

وأخيرًا، اعتمدت اللجنة الوزارية الصيغة النهائية للبرنامج، معتمدة على المخرجات الميدانية، والمقترحات الجهوية، ومُدمجة مختلف المشاريع ضمن رؤية متناسقة مع السياسة العامة للدولة في مجال الإنصاف المجالي، لتخرج وثيقة مرجعة للتنفيذ.

يمثل هذا التسلسل في الإعداد، الذي اتسم بإشراك فعلي للفاعلين المحليين، وترسيخ مبدأ التشاركية من القاعدة إلى القمة، نقطة انطلاق لمرحلة جديدة في مسار التنمية المحلية بموريتانيا.

إذا كان المسار التحضيري للبرنامج الاستعجالي قد أعاد الاعتبار للفاعلين المحليين في صياغة القرار التنموي، فإن التحدي الأكبر اليوم يكمن في ترجمة هذه المقاربة الجديدة إلى تحوّل مؤسسي دائم في طريقة عمل الحكومة، بما يتجاوز الطابع الظرفي للبرنامج، نحو ترسيخ نموذج تنموي أكثر عدالة وفعالية.

فالبرنامج لا يُعد مجرد حزمة من المشاريع، بل يشكّل لحظة مفصلية لاختبار قدرة الإدارة على تبنّي منطق الإنصاف المجالي كمعيار توجيهي، لا استثنائي، في توزيع الموارد وتحديد الأولويات. كما أنه يفتح أفقًا لإعادة التفكير في العلاقة بين المركز والمحيط، من خلال تجاوز منطق التوجيه العمودي، نحو شراكة أفقية تتأسس على المعرفة المحلية، والتخطيط التشاركي، واللامركزية الفعالة.

ومع ذلك، فإن تحويل هذا الطموح إلى واقع ملموس يواجه تحديات بنيوية حقيقية، من أبرزها: الحاجة إلى تعزيز قدرات الفاعلين المحليين على التسيير والمتابعة، وضمان شفافية الصفقات العمومية، لضمان اختيار مقاولين جديرين بالثقة من حيث الخبرة والوسائل، وتوفير آليات دائمة لصيانة المنشآت بعد إنجازها. ذلك أن أي قصور في هذه الجوانب قد يُفرغ البرنامج من محتواه التحويلي، ويحوّله إلى تكرارٍ مكلف لتجارب سابقة لم تثمر نتائج دائمة.

ومن هنا، فإن نجاح البرنامج لا يتوقف فقط على إنجاز المشاريع، بل على مدى القدرة على ترسيخ ثقافة جديدة في العمل التنموي، تُعلي من شأن التشاركية، وتضع التراب في قلب السياسة العمومية. إنها فرصة تاريخية لبلورة مرجعية وطنية في مجال التنمية المحلية، لكنها – في الآن ذاته – امتحان صعب لمصداقية الدولة وصرامة مؤسساتها.

ورغم هذه التحديات، فإن البرنامج يحمل في جوهره بذور أفق تنموي جديد، ويكفيه نجاحًا أنه أعاد الأمل إلى السكان، وجعلهم شركاء حقيقيين في رسم مستقبلهم.

ولضمان تفعيل الأفق التحويلي الذي ينطوي عليه هذا البرنامج، نقترح في هذا السياق حزمة من التوصيات العملية:

·        إحداث آلية مستقلة لتقييم الأداء، تتابع تقدم تنفيذ المشاريع ميدانيًا، وتقيس مدى تلبية تدخلات البرنامج لحاجات السكان وأولوياتهم الفعلية؛

·        تطوير آليات للمتابعة والتقييم وتعزيز قدرات الفاعلين المحليين، من خلال التكوين المستمر والتأطير الفني، لضمان تملكهم لأدوات التخطيط والمتابعة والتقييم، وفي هذا السياق، أصدر معالي الوزير الأول المقرر رقــــــــــــــــــــم: 522 بتاريخ 16 مايو 2025، القاضي بإنشاء آلية للإشراف والمتابعة على البرنامج الأولي لتعميم النفاذ إلى الخدمات الأساسية للتنمية المحلية، وذلك دعمًا لهذا التوجه، وسدًّا للثغرات القانونية واللوجستية؛

·        اعتماد ميثاق شفاف لتدبير الصفقات العمومية،خاص بتنفيذ هذا البرنامج، يضع معايير صارمة لاختيار المقاولين، ويشرك ممثلي السكان في المتابعة الميدانية لأشغال الإنجاز؛

·        إحداث صندوق دائم لصيانة المنشآت المنجزة، لضمان استدامة الخدمات وتقليص كلفة الإهمال والتكرار.

·        ترسيخ البعد الترابي في السياسات العمومية، من خلال إدماج مخرجات هذا البرنامج في وثائق التخطيـــــــــــط الوطني (كالميزانية، خطة الاستثمار، السياسات القطاعية…)  لضمان استمرارية المكتسبات.

لا يمكن النظر إلى هذا البرنامج فقط من زاوية ما سينجز على الأرض من مشاريع على الرغم من أهميتها والحاجة إليها، بل بما سيخلّفه من أثر على الثقافة السياسية والمؤسساتية للدولة. فإذا تم استثماره كرافعة لتجديد تصور الدولة لعلاقتها بالتراب والمواطن، فسيكون بالفعل لحظة تأسيسية لتحول تاريخي، أما إذا اقتصر دوره على تلبية حاجات آنية، دون بناء آليات دائمة، فستضيع فرصة ثمينة، ولحظة فارقة.

يبقى الرهان الحقيقي إذًا: تحويل الاستعجال إلى استدامة، والبرنامج إلى سياسة، والانطلاقة إلى مسار.

 

محمد سيداتي محمد الأمين

باحث في الجغرافيا البشرية، مهتم بقضايا الحكامة الترابية وتطوير آليات اللامركزية.

البريد الإلكتروني: oulsidaty@gmail.com