الطريق إلى الاستقلال: الأدب في مواجهة الاحتلال/ محمد فال سيدنا

{مقال كتب ونُشِر(نفمبر 2020) في العدد الثاني من مجلة “الثقافة” التي تصدر عن وزارة الثقافة)
لم تكن المقاومة الثقافية وليدة الدخول الفرنسي “الرسمي” للبلاد الموريتانية مع مطلع القرن  العشرين، بل واكبت ـ قبل ذلك ـ بدايات الأطماع الأوروبية وما طبع تلك الفترة من بعثات ومستكشفين أيقظوا حذر السكان، فظهرت دعوات “تحسيسية” يدفعها الحراك الجنوبي الذي يتصدى له الأمير “محمد لحبيب” ضد “الفرنسيين” هناك، وما سمي حينها بحرب العلك… أمور مهدت إرهاصاتها المتلاحقة لمؤتمر تندوجة 1856 الذي جمع الشيخ سيديا بن المختار بن الهيبة على مائدته نحو أربعة آلاف؛ بين الأمراء والشعراء والقادة البارزين، في مسعى لعقد صلح بين الجميع يؤسس لاتجاه واحد يصوب كل تركيزه نحو الوافدين الأوروبيين الجدد.
كانت قصيدة الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديا “الرائية” التي أنشدها في المؤتمر مشعلَ المقاومة الثقافية، التي تواكب المقاومة “المسلحة” وتعبئ لها، وترعاها في وعي و”لا وعي” السكان تحريضا وتأطيرا، و هي قصيدة تستنهض الهمم وتحث على حماية الدين والسكان من المد الأوروبي ذي النزعة الاستعمارية، يقول فيها:
حُمَاةَ الدِّينِ إِنَّ الدِّينَ صَارَا       أَسِيرًا لِلُّصُوصِ وَلِلنَّصَارَى
فَإِن بَــادَرْتُمُـــــوهُ تُدَارِكُوهُ        وَإِلَّا يَسْبِـــقِ السَّيْفُ الْبِدَارَا!.
وهي دعوة أحاطها الشاعر بموثِّباتٍ تحذر من الأطماع الأوروبية وما قد يقود إلى ذلك من نتائج وخيمة.
لم تتوقف المقاومة الثقافية عند ذلك الحد، بل يمكن القول إن المقاطعة “الاقتصادية” تأسست في تلك الحقبة على دعوات قادها بعض الشعراء والعلماء، حذروا من المبادلات التجارية مع “النصارى الوافدين”، يقول العلامة اجدود ولد اكتوشني(ت 1872م) مناصرا الجبهة “المسلحة” بقيادة الأمير “محمد لحبيب” إبان “حرب العلك”:
لا تعينوا بالعلك حزب الأعادي      أتعينون آثما كفــــــــــــــــارا
فاقطعوا عنهم الشراء حــــذارا     أن يصروا على الأذى إصرارا.
ويتجاوز “المقاطعة” داعيا إلى قتالهم:
فخذوا النبل والرماح ورامـوا      والمدى العصل والعصي الكبارا
وسيـــوفا صوارما ليس تنبو        ورعـــــــــودا تقصر الأعمارا
ويبقى للمحظرة دور بارز في إصدار الفتاوي المناهضة للمد “النصراني” فأسست خطابا “دينيا” يعتبر دفع العدو الجديد جهادا في سبيل الله، موصدة الباب أمام محاولات التغلغل “الثقافي” التي تعززت بعد دخول الفرنسيين منذ مطلع القرن العشرين، حيث أفتى العلماء بمقاطعة المدارس الفرنسية، رغم حرص الفرنسيين على تمدرس أبناء السكان، وهو ما اعتبره العلماء محاولة لطمس الدور العلمي والتربوي للمحظرة، وسعيا لاختراق ثقافي يستهدف الهوية العامة للشعب، ليتبعهم في ذلك التصور أغلب السكان. ما حدا بالحاكم الفرنسي العام في غربي إفريقيا أن يكتب في تقرير له إلى وزير المستعمرات(1902) متحدثا عن صعوبة اختراق المجتمع الموريتاني ثقافيا: “وجدنا شعبا له ماض من الأمجاد والفتوحات لم يغب عن ذاكرته بعد، ومؤسسات اجتماعية لا نستطيع أن نتجاهلها” في إشارة إلى المحاظر. بل إنهم انتهجوا الترهيب في فرض “المدارس” والترغيب؛ حتى تعهدوا بدفع منح شهرية لكل شيخ محظري يتعلم الفرنسية ويسمح بتعليمها ساعات يوميا، إلا أنهم لم يفلحوا في تلك الخطة أيضا.
وقد تناول العلماء الموريتانيون تلك المدارس من زاوية فقهية باعتبارها “نازلة” جديدة يجب عرضها على النصوص الشرعية، وفي ذلك يقول الشاعر محمد بن محمد المصطفى موجها السؤال إلى علماء البلاد:
مِلحَ البلاد ما جواب سائِلِ       عن حكم أمر في البلاد نازل:
تسليمـــنا أولادَنَا الصغارَا        طـوعًا إلى مدارس النصارى.
فأجابه كثير من العلماء بعدم جواز التمدرس، وجسدت فتاويهم ممانعة ثقافية أوصدت الباب أمام المنافذ التي اختارها الفرنسيون للتغلغل في المجتمع.
وقد سئل العلامة المختار ولد ابلول عن حكم إرسال الأبناء إلى المدارس الفرنسية، فأفتى: “الحمدلله؛ أما بعد فإن الحكم على الشيء فرع عن تصوره والأحكام الشرعية منها ذاتي ومنها عرفي، وما بالذاتي غير ما بالعرفي، فإنه يلزم قبل أن يفتي علماؤنا الإلمامُ بالدروس المقررة للطلبة في تلك المدارس: هل فيها ما يتصادم مع الدين الإسلامي، والبحثُ عن الإدارة فيها: هل فيها تشويه للدين أولا، فإن قلب الصبي جوهرة ساذجة قابلة لكل ما ينقش فيها؛ فالصبي محتاج أولا وقبل كل شيء إلى التنبيه والتثبيت على الفطرة، وعلى أبويه ومعلميه حراسة تلك العقيدة ورعايتها والسهر عليها، وإلا فقد ضيعوا ما قد أوجب الله عليهم من حقوق صبيانهم، وإذا كان الرجال المستيقظون موضع التحذير من عجلة أهل البدع والأهواء، فالصبيان أولى؛ فكم من بدعة أو ضلالة استأصلت أمة أو أمما بسبب قدوم واحد عليها”.
وبلغ بهم التهرب من المدارس الفرنسية  إخفاءَ أبنائهم عن الفرنسيين خشية إدخالهم قسرا في “المدرسة”، حتى هاجروا إلى الأرياف البعيدة والجبال، وادَّعَوا موتهم أحيانا، بل إن بعضهم كان يدفع الأجرة لمن يخلصه من “ورطة التمدرس”.
ومن ذلك أن حيا فتحت به مدرسة فبعثوا وفدا إلى الشيخ عبد الله بن الشيخ سيديا يطلبون منه إعانتهم على “النصارى” ليغلقوا تلك المدرسة، فاستجابوا له وأغلقوها، فأنشد العلامة الشيخ أحمدو ولد أحمذي مهنئا قصيدة يقول في مطلعها:
الحمدلله على ما نفسهْ         من الكروب وسقوط المدرسه!.
وممن أفتى بمقاطعة منتجاتهم وزيهم ومدارسهم الشيخ محمد الأمين ولد الطالب عبد الوهاب الفلالى، وقال بوجوب محاربتهم على من يســــتطيع ذلك، و من لا يســتطع محاربتــــهم بالسيف تجب عليه الهجرة عن البلاد.
وبذل الشيخ حماه الله حياته في مواجهة “المستعمر” مفتيا أتباعه بمقاطعة المدارس والثقافة الفرنسية بكل أشكالها، فأجج حقد الفرنسيين عليه وعلى زاويته الصوفية، ليدبروا نفيه واختطافه معلنين بعد ذلك وفاته في المنفى بفرنسا.
أما الشيخ ماء العينين في الشمال الموريتاني والجنوب المغربي فأسس حركة جهادية جمعت الكفاح المسلح والمواجهة الثقافية المتمثلة في الفتاوي، ونصب منبرا أدبيا ممانعا شكل مؤازرة قوية لسواعد المجاهدين.
وكانت مدارس الفلاح مصدر إزعاج للمستعمر الفرنسي، حيث نشطت في المنطقة مشكلة حاجزا ثقافيا قطع على الفرنسيين الطريق نحو استمالة جزء من السكان لاعتبارات عرقية، وظل مؤسسها الحاج محمود باه رمزا لترسيخ  علوم اللغة العربية و التعاليم الإسلامية بإفريقيا.
وإلى جانب العلماء وفتاويهم؛ كان للشعراء دور بارز في “المقاومة الثقافية” نسجته أشعارهم المناهضة للمستعمر، بفصيحها وشعبيها، ترجمت صدود الموريتانيين بكل أطيافهم في وجه الحملات الفرنسية.
جسد محمد المختار ولد الحامد الجمع بين السلاح والدهاء والكلمة في مواجهة الفرنسيين بمنطقة تكانت، حتى غدت “كيفانه” تبعث الحماس في قلوب المقاومين، وسارت بها الركبان كما سارت ببطولاته وانتصاراته عليهم.
ومن ذلك كافه الشهير الذي علق به على زعم “اكزافيي كبولاني” في حقه:
كَبُّــــــلانِي يَغَيْــــــــــــــلانَ       مــــــارتْ عَنُّ مـــــــــاهُ واعِ
دايــــــرْ مــــني راعِ وَانَ       مــــــانِ كاعْ الـــراصِي راعِ
متهكما بذلك حين طلب منه “كبولاني” توفير الجمال لنقل المؤن والإمدادات التي تسيرها “حامية تجكجة”، وقد كان محمد المختار حينئذ يهادن الفرنسيين ريثما يستقوي عليهم بالعدة والعتاد.
وهو القائل:
واللهِ عَظَّمْــــتْ السبحـــــانْ       مــــانِ باغي فالــــدنيَ يــــومْ
مـــــاهُ يومِ عنــــدْ اَزَوانْ       وللَّ يَومْ البـــــارودْ اِگُــــــــومْ
ومما استدل به الأمير سيدي أحمد بن أحمد عيده على سجنه بعد أن استدعاه الفرنسيون بحجة التفاهم والتحاور؛ أنهم قدموا له طعامه وحده دون شريك، فأنشد:
مارتْ عندِ      عنِّي مگْبــوظْ
نوكلْ وحدِ       كيفْ اَمَكروظ
وفي طريق عودته إلى إمارته بالشمال الموريتاني، استبشر بالتضاريس التي تنبئ بقربه من دياره، وبعده عن تضاريس ومظاهر “اندر” في السنغال، حيث كان مسجونا:
حــــــــــامد للهْ الِّي ابعادْ       انـــــدرْ اوزينْ اديارُ
وافرغْ لمحار، اوعاد زاد       يــــــورَ منْبَ بحجارُ!.
وكان سيدي ولد سيدي ولد الشيـخ القاضي أحد أبطال المقاومة “المسلحة” والثقــافية معا، فنجده مخاطبا فرسه “أم اخريص” معتزا بها وبنفسه غداة الركوب إلى العدو:
لزمـــكْ يَمّْ اخْرَيْـــصْ التّجْــلاجْ       وارْفــــــــودْ الوغــــرَ وَاَلَجْـــــلاجْ
امَّالـــــــكْ يكــــــونْ افْعِـــــــلاجْ       ــ يَمّْ اخريــص ــ امْـَردّْ الكفَّــــــــارْ
اوكـــــان اجَّلَجْـــتِ ما تحتـــاجْ       اعْليــــــــــكْ آنَ حـرّْ، اولَحــــــــرارْ
ما يِمْتلْــــــكُ؛ كافيهـــــــــم ملكْ       لِلاهْ العــــزيــــــــــزْ القَّهــــــــــارْ
اولا يجـْــــرِ زادْ اعليهـــم سلكْ       لَحــــرار اَمْتَــنْ من ذاكْ امْــــــرارْ
كأنما يكسر بشعره هذا نير الإخضاع الذي يسعى الفرنسيون لفرضه على البلاد والعباد.
وكان الشاعر  “سيديا ولد أحمدو ولد قطرب الديماني” مقاوما عنيدا،  لم يخف انزعاجه منذ شبابه من “الكولونيالية” الفرنسية، وقد هاجر مطلع القرن العشرين – مرغَماً – من “الگبلة” إلى تگانت، ثم آدرار، وجنوبي المغرب… حتى قادته رحلته الجهادية ضد الفرنسيين نحو “تمبكتو” على رأس “غَزِّي” يطارد “الحاميات الفرنسية” رفقة نخبة من المجاهدين القادمين من الشمال، ليقع في الأسر هناك، يقول:
سَلَّكْــــــنِ يالرّبْ امْن النَّـــارْ      عاگـــــبْ ذَ من رَوْغْ الكفَّـار
مَــــــــــرَّگْنِ كُلُنَلْ اديـــــــارْ       مــــــانِ بــاغِ عنهــــم نَرْحَلْ
گسْــتْ اَطار اوجاني فَاَطَارْ       واتْـــــرَكْــــــتْ اَطارْ الْكُلُــنـَلَ
اوگسـت التَّلّْ اوكاره دخْلِيهْ       مــــا نبــــــغِ نَوْعَدْ كنت التَّــلْ
يغيـْر ابْلدْ كامـل ما فيـــــهْ       كُـــــلُنَـــــــــلْ اَلَّا متْعـــــــــدَّلْ!.
وخلال محنته في السجن لقي رجلا ينوي السفر نحو “الحوظ”، فحمله رسالة(ابْرَ) في “طلعة” إلى أمير “مشظوف” اعلي محمود ولد محمد محمود، وكانت بينهما صداقة، قد تكون بداياتها منذ معركة “النيملان” 1906 التي شاركا فيها إلى جانب المجاهدين ضد الفرنسيين القادمين من “معسكر تجكجة”:
هذِ “لبْرَ” فيــــــــكْ اَمانَ     وانَّكْ لحَّـــــــــــگْــــهَ عجْلانَ
وارْجَــــــــعْلِي بِمَا أَمْكانَ     منْ شِي فيهْ المقصودْ اِعُودْ!.
گـــولْ الَّخْـــيـــامْ انِّ ذانَ      فالحـــبسْ، اُلا عندِ مَوجودْ!.
غيرْ امْحَقَّــــقْ عنْ مُلانَ      موجـودْ، او عنْ لعْمرْ مَحدودْ
او قَــدَّرْنَ لَ ما ريتْ آلَ       تَبلــــــــــغْ بِيهَ فمْ الْمَقصودْ
گيسْ اعْلِ محمودْ؛ اَلاَّ لَ       تتْعَـــــــدَّ گاعْ اعْلِ محمودْ!.
ومن الأشعار الشهيرة في شأن المقاومة، ما ينسب إلى البطل الشيخ ولد عبدوكه، بعد هدمه قلاع “المستعمر” في ولاته:
لخْوَيْــــــبَ اخْــــــــــــلاتْ      وانْكْطْــــــــعْ مُولْــــــــــــه
وِاِيـــــــلا بتْنـــــــــــــــــاتْ      انَوَلُّـــــــــــــــــــــــــــــولْهَ
كما واكب الشعراء أبطال المقاومة بتخليد بطولاتهم، والحث على الانخراط في حركاتهم الجهادية ضد “النصارى” ورثائهم بعد الاستشهاد.
من ذلك قصيدة اجدود ولد اكتوشني الذي أوردنا منها البيتين الآنفين بشأن الحث على المقاطعة “الاقتصادية”، حيث يقول فيها مستنهضا الهمم نحو الجهاد مع “محمد لحبيب” في حرب العلك 1854:
جاهدوهم في الله حق جهاد         ولتكونــــــوا لربكم أنصارا
وانفــروا للوغى خفافا ثقالا         لايثبطـــــكم اللعين اغترارا
لاتخــونوا إمامكم وانصروه         إن في خــــونه لذلا وعارا
قــــد دعاكم فلم يزدكم دعاه          لجهــــــــاد العدو إلا فرارا
طالــما حاول الجهـاد وحيدا         أوحيـــد يروم فتح النصارى؟!
فانصـــروه ينصركم الله طرا         واقتلوا المشركين والفجارا
يــــاحبيا أوجف عليهم بخيل         وبرجـــــــــل يهدم الأمصارا…
 وقصيدة “ولد ابن ولد احميدن” التي يمدح فيها قائد معركة “لكويشيشي” الأمير أحمد ولد الديد، التي يقول فيها:
إذَا الشجـــعـــانُ صَرَّعَهُم كَرَاهُم          وباتوا فوق أرحلِهِـــم هُجُودَا
وَطــوَّتهُم يُـــدِىُّ طَــــوى طويلٍ           وأمسَى البَـــــردُ جَلَّلَهم بُرُودَا
وشفَّهُمُ الصَّــــــدَى حتى تَوَانَوا           وصَدُّوا عَن عزَائِمِهم صُدودَأ
تــــــَرَاهُ أغَرَّ مُبتَسِــــــماً يُزَجَّى           مُصِيبَ الرَّاىِ والنَّظَرَ السَّدِيدَا
يُحَــــذِّرُهــــــم ويُغرِيهم وَيغرِى           بِهِــم تِيـــــهاً مُضَــــلَلَةً وبِيدَا
ويُورِدُهم وقد طـــــارت شَعَاعاً           قُلُوبُهـــمُ وقــد يَئِسُوا الوُزودَا
قَلِيـــــــــبـاً لَيـــــسَ يَعلَمُه دليلٌ           لَيَالِىَ من مُحَاقِ الشهرِ سُودَا
فَيصبِحُ وهوَ ينظرُ في الأعادِى           كَفِيـــــــلاً بالوَسِيقَةِ أن يَعُودَا
وبعيد استشهاد الأمير بكار ولد اسويد احمد أنشد الفنان الجيش ولد محمادُ بكائيته الشهيرة:
نَفْعْ اضْعِيفْ المستْغربْ         والجَّـــارْ لكبيرْ الثَّقِيلْ
والغلْظْ وامْروّةْ لعْـــربْ        ابْگاوْ فگْفَ راصْ الفِيلْ
وابْگاتْ زَنْفـــــتْ لگبِيلَ      الِّي افْلگْــــــــــلوبْ اثْقِــيــلَ
وارْفـــــُودْ كَمْ من رَمِيلَ      والْباسْ واشْرابْ امْعَ اوْكِيلْ
وامْشاتْ فالظِّيگْ الشَّيْلَ      وامْشَــــا امَّــــــــلِّ  يالجَلِيلْ
نَفْعْ اضْعِيفْ المستْغربْ         والجَّـــارْ لكبيرْ الثَّقِيلْ
والغلْظْ وامْروّةْ لعْـــربْ        ابْگاوْ فگْفَ راصْ الفِيلْ
وابْگا الغلْظْ امْعَ التّنداجْ      للخَلــــــــــــقْ فَاَيّامْ اَلْجْلاجْ
فمْنَيْنْ يگســـــالُ عِلاجْ       واتْعُـــــــودْ لَرْياحْ اتْجِ ويل
واتعــــودْ مَرْكَنْ للَّجَّاجْ       والْمـــــــَدْ يَكْفَحْ كِيفْ السَّيْلْ
ولما اتجه الفرنسيون في مراحل لاحقة إلى تنظيم “اقتراعات” لدى الشعوب الإفريقية المستعمرة من أجل انتخاب ممثلين أو الاستفتاء بشأن تحقيق المصير، كانت المقاومة الثقافية هي الأولى في مواجهتهم ــ إلى جانب الحراك السياسي ــ  فانبرى الشعراء يعرضون بموالاة السلطات الفرنسية ويدافعون عن خيارات المنافحين الممانعين؛ فهذا الشاعر أحمد سالم ولد بُبوط يصدح غداة استفتاء “وي أو نون” 1958 للخروج من المجموعة الفرنسية أو البقاء فيها، فصار “كافه” شعارا يتغنى به السكان شرقا وغربا، ويستشهد به ــ في المهرجانات والاجتماعات ــ الجناح السياسي المناهض للإدارة الفرنسية:
وَيّْ اونُونْ اَلَّا خِيارات :: والمُخَيَّرْ ماهُ مغبونْ
وَيّْ امحالِيَّ فالْحَسْناتْ :: وامْحالِيَّ فالفظَّ نْونْ!.
وفي الاستفتاء ذاته يعبر الشاعر سيدي محمد بن مياه عن موقفه من “نعم”:
من أنعموا لوفاق المشركين عموا         وفاق مقتصدي سبْل الهدى نعمُ
من نعمــــــة ترتجي في طيها نقم         أو نقــمــــة تختشى في طيها نقم
في ظـــاهر الأمر والمأمول باطنه        غَيْبٌ وإن صدقوا في كل ما زعموا
ويعبر أحدهم عن هجرته الاضطرارية عن “موريتان” امتعاضا من “العسكرية الفرنسية” وما تفرضه من عنجهية واحتقار للسكان:
عــنْ مـــــوريتانْ اتْمــَـنْـدرِ   يخـــــــــــلاگِ موريتانِ
عــــــادْ امْحَـمـِّـــيهْ الصندرِ   والگــــــومِ والنصــرانِ.
وكان إعلان الاستقلال عن فرنسا 28 نفمبر 1960 مناسبة عظيمة احتفى بها الشعراء وخلدوها في أشعارهم. فهذا العلامة محمدسالم ولد عدود يقول:
بشـــــرى لنا ببراعة استهلال       لاحتْ من استقبال الاستقلال
نلـــناه في ســـلـم بأهنأ غبطة       مـــن غير ما ضغط ولا إذلال
لازلتم في الأرض جمع سلامة      يحـــمى بتصحـيح من الإعلال
فاشرب هنيئا أيها المختار في      قصــر الحكومة دارك المحلال
وليبـق مجــلسنا الكريم مؤيدا      بالنصــــــر والتبجيل والإجلال
وفي يوم الاستقلال أنشد الشاعر الحسن بن أبا:
للهِ يــــــوم عظـــــيم القدر والشان     قـــد استقـــل به الشعب المُرِيتاني
يوم كسا أرضنا ثوب السرور على    رغــــم العدى وطوى أثواب أحزان
يــــوم به أصبح الإسلام متصفا     بالــنصـــــر والكفر موصوفا بخذلان
يا أيها الشعـــــب إن الله أنقذكم     بالفــضـــــل من رق ذي ظلم وكفران
وماهي إلا نفحات يسيرة من خطاب “المقاومة الثقافية” التي تعاضدت منذ الوهلة الأولى لترصع تاريخ البلاد بصمود ثقافي نادر اعترف له الفرنسيون أنفسهم بالعجز عن هزيمته، منبهرين بالخطاب الموحد الذي تبناه السكان بكل أطيافهم، وتحلقوا حوله ضاربين عرض الحائط بالثقافة الوافدة وما تحمل من مشاريع “دينية” و”ثقافية” تستهدف هوية المجتمع وكيانه.