الصين من الجوع إلى مصنع العالم, كيف؟ / لجين سليمان

لم ترتق الصين إلى مصاف الدول المتقدمة فجأة، ولم تستخدم عصا سحرية في بناء قوتها، بل سبقت تلك القوة قرون من المصاعب والتدهور والمجاعات، ولذلك لا بدّ من إلقاء نظرة تاريخية سريعة على المراحل التي سبقت صعود الصين.

في عام 1919 حصلت حركة احتجاجية طلابية تسمّى حركة “الرابع من آيار”، ردّا على معاهدة “فرساي”، عندما سمحت الحكومة الصينية لليابان بالاحتفاظ بالأراضي الواقعة في مقاطعة “شاندونغ” التي سلّمتها ألمانيا بعد حصار “تسينغتاو”، ويعود تأسيس الحزب الشيوعي الصيني عام 1921 إلى تلك الحركة.

صعد بعدها “ماوتسي تونغ” كزعيم لهذا الحزب عام 1935، تلك الشخصية الصينية التي تعدّ من مناضلي الحزب الشيوعي وأحد مؤسسيه، والذي برز دوره بشكل كبير بعد أن استطاع قيادة “الثوار” الشيوعيين من قواعدهم في جنوب الصين والتي حاصرتها قوات الحزب الوطني أو ما يسمى بالـ “كومنتانج” إلى مدينة “يونان” الواقعة في أقصى الشمال الشرقي، هذا الانسحاب الذي عُرف باسم “المسيرة الطويلة” استمرّ مدّة عام كامل، وكان له دوره في الحفاظ على نوّاة القوات الشيوعية في بداية تشكّلها.

وعلى الرّغم من النجاح الذي حققه الحزب الشيوعي الصيني في تلك الفترة، عن طريق خلق سياسات اقتصادية جديدة ونشر تعليم عال، والعمل على تشكيل نظرة جديدة لحياة الفلاحين، إلا أنّ نوعا من التخبّط في قيادة الحزب الشيوعي للصين بدأت تظهر في تلك الفترة. برز هذا التخبط في عدد من الحركات المفصلية التي كانت تهدف إلى تحقيق نوع من النجاح إلا أنها فشلت في ذلك، ومن الأمثلة على ذلك حملة “المائة زهرة” أو “دع ألف زهرة تزهر” التي حصلت بين عامي 1956 و1957، تمّ في هذه الحركة تشجيع المثقفين على الإدلاء بآرائهم للوصول بالمجتمع إلى حالة من تعدد الرؤى والحصول على أفكار جديدة، وقد كشفت الآراء الناتجة عن هذه الحملة عن كم كبير من الاستياء، مما اضطر قادة الحزب الشيوعي الذين دعوا أصلا إلى هذه الحركة إلى التخلّي عنها والتراجع خطوة إلى الوراء. “القفزة الكبرى إلى الأمام” كانت محاولة أخرى للنهوض بين عامي 1958 و 1961، وقد نتج عنها مجاعة كبيرة بسبب انهيار الإنتاج الزراعي، كما توفي بين 20 إلى 30 مليون شخص بسبب الجوع والفقر، وتعتبر هذه المجاعة من أكبر المجاعات في القرن العشرين.

الثورة الثقافية

تتعدد الآراء حول تلك الثورة، يرى بعض المؤرخين أنها حققت آثارا إيجابية، ونجحت في عدد من الأمور، فيما يرى البعض الآخرأنها فشلت، ولكن من الممكن القول أنها ثورة، وهي سيف ذو حدين، كما أيّة ثورة في العالم، تُنتج آثارا سلبية وأخرى إيجابية. وبحسب كتاب “مقدمة قصيرة جدا، الثورة الثقافية الصينية” لمؤلفه “ريتشارد كيرت كراوس” الأستاذ الفخري في العلوم السياسية في جامعة “أوريجون” يقو ل” “كان لدى ماو وأنصاره بالفعل برنامجا متكاملا للصين، ومما ساهم بشكل جزئي في تأجيج الاضطرابات السياسية بعد عام 1966، أي بعد الثورة الثقافية) إخفاقاتهم في تنفيذ هذه المبادرة اليسارية، في ظل مقاومة نخبة بيروقراطية محترفة كانت منشغلة بتطوير نظام أكثر استقرارا وروتينة”

بدأت تلك الثورة عام 1966 وانتهت عام 1976 بوفاة “ماوتسي تونغ” ، عندها تكوّن ما يسمى بـ “الحرس الأحمر” وهم مجموعة من الطلاب، اعتمد عليهم “ماو” لتخليص الصين مما يسمى بـ “الأربعة الكبار” والتي هي “العادات القديمة و والثقافة القديمة والتقاليد البالية والأفكار القديمة”.

ووفقا للكتاب السابق الذكر، فقد برز شعار “اقتصاد الاعتماد على النفس” وقد ارتبط هذا الاعتماد بتزمت أيديولوجي للحد من الاستهلاك الفردي في سبيل الاستثمار العام. وعلى الرّغم من أن الثورة الثقافية قد تسببت في تعطيل الاقتصاد، إلا أن الاستقرار عاد إلى المدن بعد عام 1968، أي بعد عامين من بدء الثورة الثقافية، وذلك بالتزامن مع إرسال الحرس الأحمر للعمل في الريف.

ويقيّم نمو إجمالي الناتج المحلي للصين خلال الثورة بما يقارب 6% سنويا، وهو أبطأ مما كان عليه خلال السنوات الأولى لتأسيس الجمهورية الشعبية.

الصين اليوم مصنع العالم.

اليوم وبعد هذه السنوات من الضعف، نجحت الصين بالعمل المستمر والدؤوب في التربع على عرش صادرات العالم ، ففي العام 2009 انتزعت الصدارة من ألمانيا خلال الأزمة المالية العالمية التي عصفت بالكون في أواخر العام 2008.

وفي عام 2019 بلغت الصادرات الصينية نحو 2.5 تريليون دولار، كما سجل الميزان التجاري الصيني خلال العام ذاته فائضا ضخما بلغ 422 مليار دولار.

لم تقتصر الصادرات الصينية إلى العالم على نوع محدد من المنتجات، بل اتسعت لتشمل السيارات الصغيرة والكبيرة، الأجهزة المنزلية من تلفزات وبرادات وغسالات وغيرها ( حيث لا يكاد يخلو بيت في العام من إحداها) ،الآلات الصناعية، الجرّارات الزراعية، الكومبيوترات، الهواتف الذكية، والألبسة والشاي ومئات آلاف البضائع الأخرى، من المنتجات التي انتشرت في معظم أسواق العالم .

وتكنولوجيا حصل تطور هائل، فبعد أن طورت أوروبا الجيلين الثاني والثالث من شبكات الاتصال، والولايات المتحدة الأمريكية الجيل الرابع، عملت الصين على تطوير الجيل الخامس، وذلك بالتزامن مع تطوير الجيل الرابع للحاق بالشركات المتقدمة، ويُعتقد أنها دخلت حاليا في الاعداد للجيل السادس الذي قد تفاجئ العالم به كما فاجأته بالذي سبق.

وأما ماليا فبين شهر وآخر، يرتفع الاحتياطي الصيني من النقد الأجنبي تشهد البيانات الصينية زيادة في احتياطي النقد الأجنبي، فقد أظهرت الأرقام أن احتياطي الصين ارتفع إلى 3.2224 تريليونات دولار بنهاية تشرين الثاني، وذلك بالمقارنة مع 3.2176 تريليونات دولار بنهاية تشرين الأول.

يقول ديفيد مان، كبير الاقتصاديين الدوليين في بنك ستاندارد تشارترد، “من نهاية السبعينيات إلى الآن، رأينا أكبر المعجزات الاقتصادية في التاريخ تتحقق في الصين” خصوصا بعد هذا التقديم الاقتصادي الهائل وبعدما نجحت خطط الصين في إخراج نحو مليار شخص من الفقر

تصدير رفاهية العالم لا السلاح

لعل المبدأ الاساسي الذي اعتمدته الصين في نموها وتحديدا الاقتصادي هو الذي حقق وما زال يحقق كل هذه القفزات الهائلة، ، فهي قرّرت مبدأ الاعتماد على النفس، ذلك أن في عمق الثقافة الصينية القديمة ثمّة حكمة تقول :” عندما يسقط ولدُك أرضا لا تحاول إنهاضه، بل دعه ينهض بنفسه” فلا سبيل للتقدم سوى الاتكال على الذات.

بالنتيجة، سبق صعود الصين الكبير أو كما يسمّى “الصعود السلمي للصين” مجموعة كبيرة من حروب الآخرين وأطماعهم على أرضها والأزمات والكوارث والموت جوعا، لكنها حوّلتها الى تحديّات، تم تجاوزها بالعمل الدائم على محاولات جديدة لخلق نتائج أفضل.

اليوم تتربع الصين على واحد من أهم اقتصادات العالم، وفيها ما يقارب 500 ملياردير على مستوى العالم وهو رقم قريب لما هو في أميركا، وصارت تُسمّى :” مصنع العالم”، وهي تُشكّل التحدي الأكبر للدول الأطلسية وعلى رأسها أميركا بسبب نموها الهائل وليس لأي سبب آخر، فلم يُعرف عن الصين أنها تدخلت في حروب خارجية أو اعتدت على أحد أو سعت لقلب أنظمة في العالم. ولم يُعرف عنها انها اغتنت بسبب تصدير السلاح، وانما بفضل ما يُساعد الناس عبر العالم في حياتهم المنزلية وأعمالهم وفي البنى التحتية لدولهم وفي تقدمهم التكنولوجي والعلمي. ولهذا فهي تُخيف دولة اعتادت على عكس ذلك تماما.