اتحاد الإمارات..والدرس العربي/ د. السيد ولد أباه

نصف قرن مر على قيام دولة الإمارات العربية المتحدة التي احتفلت بذكراها الخمسين قبل أيام قليلة. وكنت، كغيري من الجيل الذي عاش في طفولتِه مرارةَ هزيمة يونيو 1967 وما رمزت له من تعثّر مريع لمشروع الاندماج القومي العربي، شديدَ القلق والخوف على التجربة الاتحادية التي قامت على ساحل الخليج قبل خمسين سنة.
لم تكن التجارب السابقة مشجعةً، فقد أخفقت محاولة الوحدة السورية المصرية التي جرت في عام 1958 ولم تصمد أكثر من ثلاثة أعوام، كما فشلت المبادرات التي تبنّتها الأنظمة الثورية القومية في عدة مراحل ومناسبات. ولم تؤد التجارب المؤسسية للعمل العربي المشترك التي تمحورت حول جامعة الدول العربية ومنظماتها المتخصصة إلى نتائج معتبرة.
وهكذا استقر في وعي النخبة الفكرية العربية منذ نهاية الستينيات أن الطموح إلى الوحدة العربية ليس سوى وهم طوباوي من أوهام التنظيمات الأيديولوجية والأحزاب القومية، وكتب مفكرون عرب عديدون حول نقد المشروع القومي العربي و«نهاية» فكرة العروبة.
ولذا كانت تجربة اتحاد الإمارات اختباراً محفوفاً بالمخاطر، ولم يكن الكثير من الباحثين والمختصين في الشؤون العربية يراهن على استمراريتها.
لقد تميز السياق الذي أُعلن فيه الاتحاد بمحددات ثلاث كبرى هي: استكمال الانسحاب الأوروبي من المنطقة العربية، وبروز القضية الوطنية الفلسطينية على الأجندة الدولية بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة سنة 1967، وبداية عصر النفط العربي.
لقد كتب على هذه الدولة الجديدة التي أعلنت في الخليج العربي بقيادة القائد الحكيم المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، أن تتفاعل مع هذه الرهانات الجديدة كدولة إقليمية محورية وفاعلة في القضايا العربية المصيرية.
لقد أدرك الشيخ زايد بحسه الاستراتيجي الثاقب أن المكانة الديبلوماسية المؤثرة في خريطة العلاقات الدولية مرهونة بموازين القوة الاقتصادية، فسعى مع إخوته من حكام الإمارات إلى بلورة مشروع تنموي فريد أهَّل الدولة الجديدة إلى أن تكون في قلب المنظومة الاقتصادية العالمية في ملتقى الطرق بين الشرق الأوسط والعالم الآسيوي الصاعد.
كما أدرك الشيخ زايد بحسه الديبلوماسي الفائق ضرورةَ بناء نظام عربي بديل عن التركيبة الأيديولوجية الفاشلة، فقدم مبادرات هامة من أجل المصالحة العربية وبناء أطر صلبة وثابتة للتضامن العربي، فكانت الإمارات في طليعة كتلة الاعتدال العربي التي تبنّت نهج التفاعل الإيجابي مع التحولات والمستجدات الدولية في كثافتها وسيولتها.
وإذا كانت الإمارات من البلدان النفطية العربية القليلة التي استفادت بكل قوة ونجاح من الإمكانات والفرص التي وفرتها هذه السلعة الحيوية التي يتوقف عليها اقتصاد العالم المعاصر، فإنها تبنّت أيضاً مقاربةَ تطوير وتدعيم اقتصاديات الدول العربية من خلال دعم البلدان العربية، فكانت في طليعة الدول التي رعت مشاريع التحديث التنموي في البلدان العربية الأخرى.
ماذا يمكن القول بعد مرور خمسة عقود على قيام تجربة الاتحاد الإماراتي؟
لم يعد أحد يتشكك في صلابة وتماسك التجربة الاتحادية التي خلقت واقعاً متجذراً، فالهوية الوطنية الإماراتية متينة وعميقة، والتجربة الاندماجية لم تنفك تتعزز وتتوطد على مر السنين، والولاء العام للدولة لم يفتأ يتقوى باستمرار.
إن هذا الدرس هو ما ينبغي تأمله واستيعابه في السياق العربي الراهن، الذي يشهد انتكاسة غير مسبوقة للمشروع القومي الاندماجي العربي.
في هذا الأفق، تشكل التجربة الإماراتية نموذجاً ملموساً لإمكانية قيام مشاريع اندماجية عربية ناجحة في حال مراعاة عدد من الشروط الموضوعية، في مقدمتها التوافق الإرادي والبناء على المصالح المشتركة واحترام الخصوصيات المحلية ضمن النسيج المشترك.
فإذا كان البعض يشكك في وحدة الهوية العربية وجدوائية المشروع القومي الوحدوي في مرحلة تشهد أخطر مشاهد تفكك وانهيار المنظومات السياسية الوطنية من كيانات وبلدان، فإن التجربة الإماراتية تحثُّنا على الاحتفاظ بالمرجعية العربية المشتركة إطاراً وحيداً وضرورياً لتكامل مصائر ومسارات بلداننا وللدفاع عن أمن واستقرار منطقتنا في بيئة إقليمية متأزمة وخطيرة. إنه الدور الذي تضطلع به دولة الإمارات على الساحة العربية اليوم، كمحور تكامل واستقرار، وكقوة فاعلة في النظام الدولي. ما تثبته تجربة الإمارات هو أن الطموح الاندماجي العربي ليس طموحاً مستحيلاً، أو طوباوية خيالية، بل هو مشروع مطروح للمستقبل وقابل للتحقق والإنجاز، شرط الالتزام بقيم الموضوعية والواقعية المسؤولة والتفاعل الإيجابي مع حقائق العصر.