مركز الجزيرة يكتب: موريتانيا ما بعد انتخابات مايو 2023

ليس لافتًا في انتخابات موريتانيا التشريعية والبلدية والجهوية، 2023، ما أثير من حالات تزوير في دوائر انتخابية عديدة، فطبيعة بلدان العالم الثالث تفرض وضع حسبان لذلك، لكن اللافت أكثر أن هناك عدم رضى عما وقع من طرف الجميع، بل إن الاعتراض على بعض النتائج جاء حتى من الحزب الحاكم رغم حصوله على أغلبية مقاعد البرلمان وفاز فوزًا بيِّنًا في الجهويات والبلديات. هذا فضلًا عن أن أحزابًا وازنة توصف بالراديكالية في المعارضة لم تحصل على مقعد برلماني أو مجلس بلدي. تراجُع المشهد الحزبي بالبلاد بهذا الشكل وإن لم يكن متوقعًا، إلا أن السياق العام يفرضه ويجعل من اضمحلال بعض الأحزاب حتميًّا ربما بسبب الرؤية والسياسة والبرامج والقيادات.

تراكمات عدة أوصلت أحزابًا إلى وضعية “الموت السريري” ساعدت فيها فترة “التهدئة” التي لم يعد للمعارضة فيها من وجود سوى شعارات أو بيانات، وإن وجدت تفوح منها رائحة المعارضة للمعارضة والقرب من النظام.

ما كادت شمس الـ18 مايو/أيار 2023 تغيب حتى تأكد أن أحزاب المعارضة خرج أغلبها من المعادلة، إلا نزرًا قليلًا، فالنتائج جاءت معظمها لصالح الحزب الحاكم “الإنصاف” وأحزاب الأغلبية الداعمة للنظام.

النتائج النهائية بعد الشوطين

بعد انتهاء الفرز في الشوط الثاني، يوم 27 مايو/أيار 2023، للانتخابات التشريعية والجهوية والبلدية خرجت لجنة الانتخابات بإعلان مجالس برلمانية وصل عددها 176 نائبًا بالتناصف بين نظام الاقتراع بالأغلبية ونظام الاقتراع بالنسبية.

وقد تميز الشوط الأول بأنه حُسمت فيه 140 مقعدًا أي نسبة 79.54% من مجموع المقاعد، ومن ضمنها جميع المقاعد الخاضعة للنسبية أي 88 مقعدًا بالإضافة إلى 52 مقعدًا خاضعًا لنظام الأغلبية.

وقد وصلت نسبة تمثيل الحزب الحاكم “الإنصاف” في البرلمان إلى 61% بدل 58% في انتخابات 2018 وذلك مقابل تراجع لأحزاب المعارضة داخل البرلمان من 25% إلى 16% في الفترة نفسها.

أما أقوى أحزاب المعارضة، وهو حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية “تواصل”، فقد حصد عشرة مقاعد شملت نسبة 6% من مجموع مقاعد البرلمان الموريتاني.

بالمجمل، اكتسح الحزب الحاكم العاصمة نواكشوط؛ إذ حصد 107 مقاعد من أصل 176 مقعدًا في البرلمان، منها 80 مقعدًا في الشوط الأول، ولم تستطع أحزاب المعارضة التقليدية مثل تكتل القوى الديمقراطية واتحاد قوى التقدم والتحالف الشعبي التقدمي أن تحصل على من يمثلها تحت قبة البرلمان.

ثلاثُ دوائر خارجية تأجل حسم مقاعدها النيابية إلى الشوط الثاني، حسمت المعارضة اثنتين منها، هي دائرة آسيا لصالح التي فاز بها حزب “تواصل”، ودائرة أميركا لصالح “الجبهة الجمهورية”، فيما حسم الحزب الحاكم دائرة إفريقيا.

ومن الملاحظ أن أغلب المنافسين لحزب الإنصاف الحاكم كانوا من أحزاب الأغلبية الموالية للنظام؛ حيث واجه حزب الإنصاف منافسة شرسة في العاصمة الاقتصادية للبلاد “نواذيبو”، وخسرها لصالح “حزب الكرامة” ومرشحه للبلدية والبرلمان، وحسم حزب الإنصاف مقعدًا وحيدًا عن المقاطعة، وتوزع المقعدان المتبقيان على تواصل والتحالف من أجل العدالة والديمقراطية/حركة التجديد. وكانت مدينة نواذيبو من أصعب رهانات الحزب الحاكم، إضافة لإحدى مقاطعات العاصمة، وهي عرفات، وقد كسب الأخيرة بعد هيمنة تواصلية عليها دامت عشرين سنة.

طعون في المصداقية ورفض للنتائج

بدا جليًّا أن الانتخابات، التي لم تصب في صالح بعض الأحزاب، ستكون القطرة التي تفيض الكأس بين الأحزاب المنافسة واللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات، في ظل تخوفات المعارضة من التزوير الذي قالت: إن بوادره بدأت منذ بدء التسجيل الانتخابي بتهجير الناخبين دعمتها بتوثيق خروقات في العملية الانتخابية.

حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية “تواصل” قال: إن الاقتراع شكَّل “مفاجأة للجميع، بسبب العودة للأساليب الغابرة في التزوير” التي وصلت “ذروتها حين تم فتح مراكز الاقتراع بعد انتهاء الوقت القانوني، وهو الساعة السابعة مساء، وتمديد فترة التصويت إلى أجل غير محدد من جهة غير مخولة قانونيًّا بناء على تعليمات من منسق حملة الإنصاف في نواكشوط تمت ترجمتها في أوامر من السلطات الإدارية إلى القوة العمومية المكلفة بتأمين مراكز التصويت بإعادة فتح المراكز”. يضيف الحزب في بيان له(1):
يؤكد الحزب أنه بمقارنة سريعة لمحاضره مع نتائج المكاتب التي يتم نشرها على موقع اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات اتضح وجود مستوى كبير من التلاعب.

أحزاب الأغلبية المقربة من النظام، الداعمة للبرنامج الانتخابي لرئيس الجمهورية، محمد ولد الغزواني، كما يروج خطابها دخل عدد من رؤسائها في اجتماع بعد آخر سبقه وُصف بالعاصف مع اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات خرجوا منه بقرار رفع رسالة مباشرة للرئيس للتدخل بما يخدم السلم والاستقرار. ولم تمر ساعات بعد ذلك حتى أصدرت تلك الأحزاب بيانًا تطالب فيه بالوقف الفوري لعملية الفرز الجارية وإعادة الانتخابات بشكل عام(2).

بيان أحزاب الأغلبية التي دخلت في صراع مبكر مع حزب الإنصاف الحاكم دعا لتبديل جميع رؤساء مكاتب التصويت ووضع معايير دقيقة لاختيارهم، مشددًا على أنه تم رصد الخروقات “التي طبعت جميع مجريات هذه العملية منذ اللحظات الأولى للإحصاء الإداري ذي الطابع الانتخابي”(3).

لم يكن حزب الإنصاف الحاكم بدعًا حين دخل على الخط معبرًا عن غضبه من تسيير اللجنة الوطنية للانتخابات، فالاتهامات الموجهة لها كانت محل إجماع الأحزب السياسية تقريبًا، الحزب الحاكم شدد في بيان له على وجود خروقات قال إنه تضرر منها وحمَّل اللجنة مسؤوليتها.

رئيس الحزب، محمد ماء العينين ولد أييه، اعتبر أن الخروقات من بينها تحويل بعض مكاتب التصويت والبداية المتأخرة للتصويت في مكاتب، ومنع ممثلي الحزب من دخول مكاتب التصويت، رغم اصطحابهم للوثائق المطلوبة للدخول(4).

وأضاف ولد أييه أن حزبه لاحظ غياب بطاقات التصويت في دوائر من الواضح أن الإنصاف هو المستهدف فيها، خلافًا لما يقال، إضافة لعدم وجود العدد الكافي من بطاقات التصويت في مكتبين في ولاية العصابة، وعدم تقديم المساعدة للمعاقين خاصة من لديهم صعوبة في الرؤية(5) .

حالة عدم الرضى من ضعف التسيير حاولت اللجنة امتصاصها بأنها “تأخذ بعين الاعتبار ملاحظات الأحزاب السياسية على الانتخابات التشريعية والجهوية البلدية”؛ حيث نفت عجزها عن تنظيم الانتخابات، وأكدت أنها بعيدة عن الاستبداد “لأن شركاءها حاضرون ويتخذون القرارات معها”.

يقول الناطق الرسمي باسمها، محمد تقي الله الأدهم: إنها لم ترصد أي اختلال يمكن أن “يهز أو يشكك في مصداقية الانتخابات ونتائجها التي تسير بشكل متزن”(6).

مناطق التنافس الأكثر حِدة كانت ثغرة وعصا غليظة للأحزاب، فهي تلوح بها وتستشهد على ما اعتبرته تقصيرًا وعجزًا، رئيس البرلمان السابق، الشيخ ولد بايه، وبعد هزيمة حزبه (الإنصاف) في نواذيبو على يد حزب الكرامة الموالي قال: إن اللجنة سمحت بتهجير الناخبين ما فتح الباب “لعمليات تزوير واسعة النطاق، أبسطها عدم تسليم المحاضر لممثلي الإنصاف، بل غياب تام لاستمارات تلك المحاضر”.

رد آخر من وزير الزراعة في البلاد ونائب رئيس حزب “الإنصاف”، يحيى ولد الوقف، اتهم فيه المعارضة بعدم استيعاب الواقع السياسي الجديد وأن ذلك سبب ضعفها وتراجعها.

ولد الوقف وصف طلب المعارضة والموالاة بإعادة الانتخابات بنواكشوط وبوتلميت (إحدى أكبر المدن في محافظة الترارة جنوب البلاد) بأنه ينم عن عدم نضج.

وشدَّد على أنه لا يفهم انزعاج المعارضة من تأخر إعلان النتائج ومطالبتها بإعادة الانتخابات بنواكشوط “في الوقت الذي كان عليها الطعن في المكاتب التي ترى أنه حصل فيها تزوير”.

صاحب المركز الثاني في رئاسيات 2019 المعارض للنظام، زعيم حركة إيرا الحقوقية، بيرام ولد اعبيدي، اعتبر أن ما قيم به من خروقات في الانتخابات الحالية هو تصفية للأحزاب والشخصيات التي لم تخضع للنظام.

شدَّد ولد اعبيدي على أن النظام يعمل على خلق صورة سلبية للأحزاب غير الخاضعة له عبر تحجيمها وإظهار أنها لا تمتلك جماهير شعبية.

يضيف بيرام، الذي حصل على مقعد برلماني عن حزب الصواب، أن لجنة الانتخابات تحولت إلى “مصلحة تابعة لوزارة الداخلية” تنفذ من خلالها أجنداتها ضد الأحزاب والشخصيات المستهدفة من النظام.

مفاجأة الانتخابات وحصانها الأسود

لم يكن أكثر المتفائلين يتوقع أن تحقق الجبهة الجمهورية للوحدة والديمقراطية “تحالف أمل موريتانيا” نسبة النجاح التي حققها في الانتخابات الحالية وهو الذي لم تكد تمضي 6 أشهر على تأسيسه. التحالف حقق نتائج نيابية جيدة وأخرج حزب الإنصاف من المنافسة على دائرة أميركا وحسمها غي الشوط الثاني لصالح مرشحه.

التحالف فاز مرشحوه الأُوَل باللوائح الثلاث، ومقعد نيابي عن نواكشوط الجنوبية ومقعد عن نواكشوط الغربية والرتبة الثالثة بالنسبة لمرشحه لرئاسة جهة نواكشوط بعد الإنصاف وتواصل، وحصد التحالف الرتبة الثانية في ثلاث بلديات في نواكشوط، وتأهل للشوط الثاني على مستوى نيابيات الزويرات رفقة التحالف الشعبي التقدمي في مواجهة لائحة الإنصاف.

المشهد ما بعد الانتخابات

لم تمض ساعات على اعتماد نتائج الشوط الأول حتى لجأت المعارضة إلى أسلوبها التقليدي، مؤتمر صحفي عاجل وطارئ أعلنت خلاله الطعن في النتائج ولوَّحت بعصاها الغليظة “النزول للشارع” احتجاجًا على “تزوير إرادة الناخبين” مطالبة بإعادة الانتخابات.

إن سياق ما بعد الانتخابات مغاير إلى حد بعيد لما قبلها، وقد جاء حديث المعارضة عما قد يؤدي إلى أزمة سياسية دخلتها البلاد بالفعل، كما أن كافة الأطراف والفاعلين السياسين ليسوا مرتاحين للوضعية الراهنة وما صاحبها من توترات على كافة الأصعدة، والبلاد في غنى عنها. وفي نفس السياق، جرت لقاءات سرية لرئيس الجمهورية، محمد ولد الشيخ الغزواني، بأحزاب المعارضة بعد قرارها النزول للشارع، وقد استمع فيها لملاحظات رؤساء الأحزاب على الانتخابات مشددًا على أنه ليس حكمًا بين الأطراف المتنافسة فيها ولا يمكنه التدخل فيها وإنما الحكم فيها هو اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات وما تقرره فيها بالتوافق مع الأحزاب السياسية سيتم تنفيذه.

لقاء الرئيس برؤساء الأحزاب له كذلك بعدٌ أمني كما هو سياسي، وقد أظهره تأكيده على أهمية المحافظة على الهدوء والأمن والاستقرار مضيفًا أنها خط أحمر ولا مساومة فيها. ويبدو أن رسالة المعارضة لقيت صدى وكان وقعها شديدًا قبل وأدها في لقاءات القصر الرئاسي. ولذلك لم يحمل مهرجان المعارضة الذي نظمته الكثير من تطلعاتها، لكنه بالفعل بداية محطة جديدة مغايرة للتهدئة السياسية التي عرفتها البلاد لسنوات من اعتلاء الغزواني سدة الحكم بالبلاد.

على أن تخوفات بعض الأحزاب تذهب بعيدًا، فهنالك أحزاب أصبحت غير شرعية بقوة القانون الذي ينص على أن أي حزب لم يحصل في استحقاقين متتالييين على نسبة 1% يصبح محلولًا، وهذه النسبة هي التي اتفق عليها الفرقاء السياسيون قبل عقد من الزمن، وردة الفعل وشدة الخلاف وحدَّة الألفاظ تفسر إلى حد بعيد الصراع الذي يتخذ من “التزوير” واجهة وأداة تبرر الأجندة الخفية لإبعاد رجال وأحزاب عن الواجهة وربما عن المركز.

خاتمة

جاء هذا الموسم الانتخابي مشحونًا بالتهديد والترغيب وبسياسية لي الأذرع بعد الفشل في قراءة التوازنات والإلمام بملامح الخريطة الشعبية والقواعد الانتخابية، واعتبر ثغرة أدخلت أكبر أحزاب البلد مطبات قد لا يخرج منها قريبًا على الأقل مثلما خطط زعماؤه، وهي ذاتها التي أجبرت وزراء الحكومة على النزول للميدان للتعبئة والدعوة والمطالبة بالدعم بعد الإحساس بخطر فقدان الأغلبية والسيطرة على المناصب الانتخابية.

ومن الأكيد أن ما بعد الانتخابات التشريعية والجهوية والبلدية، الأولى في عهد الرئيس، محمد ولد الشيخ الغزواني، ليس كما قبله، فهي وإن كانت تمهيدًا لتشكيل أغلبية جديدة اختير رجالاتها بناء على معايير قد لا تعلن ولا يتفق عليها، فهي أيضًا ضربة للمعارضة التقليدية أظهرت حجم الشعبية والولاء قبل رئاسيات 2024، كما أنها في حد ذاتها درس لمن أراد استيعاب أن الولاءات والقواعد السياسية تتغير بتغير المصالح، وتتأثر بعوامل عديدة.