السياسة الفرنسية في إفريقيا.. الأداة العسكرية في خدمة المصالح الاقتصادية ودعاوى المهمّة الحضارية/ د.راوية توفيق

د. راوية توفيق

في بداية تسعينيات القرن الماضي؛ ساد نقاش في الدوائر السياسية والأكاديمية حول إعادة تعريف العلاقات (الفرنسية – الإفريقية)، حيث كانت فرنسا أكثر القوى الاستعمارية حفاظاً على علاقاتها بمستعمراتها السابقة، تلك العلاقات التي عبّر عنها (فيليكس هوفوييه بوانييه)، أول رئيس لساحل العاج بعد الاستقلال، بصكّه لمصطلح الرابطة الخاصة (France afrique)؛ ليدلّل على عمق العلاقات التي تربط باريس بمستعمراتها السابقة في إفريقيا. 

على أرض الواقع؛ قامت هذه الروابط على علاقات شخصية بين رؤساء فرنسا والنّخب الإفريقية الحاكمة، حيث تعلّم معظم هذه النّخب في فرنسا، واستوعبتهم فرنسا في نموذجها الثقافي.

وعلى المستوى المؤسّسي؛ شكّلت (المنظمة الفرانكفونية) والقمم (الإفريقية – الفرنسية) منابر، جمعت فرنسا – بشكل دوري – بالقادة الأفارقة؛ لتوطيد التعاون في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية.

وعلى المستوى الاقتصادي؛ اتخذت هذه العلاقات شكل شبكات مصالح، ربطت النّخب الإفريقية بالشركات الفرنسية التي مارست دوراً في تأجيج الصراعات في بعض الدول الإفريقية.

كما استمر الوجود العسكري الفرنسي عن طريق الاحتفاظ بعدد من القواعد والقوات العسكرية؛ بموجب الاتفاقيات التي وقّعت مع الدول الإفريقية في الستينيات والسبعينيات.

وتميّزت فرنسا بالاهتمام بالتغلغل الثقافي في المجتمعات الإفريقية بصفة عامّة، ومستعمراتها السابقة بصفة خاصة، عن طريق مراكزها الثقافية ومؤسساتها التعليمية.

وقد شهدت هذه السياسة بعض ملامح التغيّر منذ بداية التسعينيات، فخفّضت فرنسا وجودها العسكري في القارة، وأصبحت أكثر ميلاً للتدخّل في إطار جماعي أوروبي، وبدا أنّ العامل الشخصي للعلاقات مع إفريقيا يتراجع تدريجياً، خصوصاً بعد انتخاب (نيكولا ساركوزي) عام 2007م، ثم (فرانسوا هولاند) عام 2012م، للرئاسة، وتحت ضغط منافسة القوى الدولية الأخرى، وعلى رأسها الصين، تراجعت الاستثمارات الفرنسية في إفريقيا خلال العقدين الماضيين.

ويُعيد التدخّل العسكري الفرنسي في (مالي) و (إفريقيا الوسطى) التساؤل حول العلاقات (الفرنسية – الإفريقية)، فهل تسعى فرنسا عن طريق هذا التدخّل إلى إعادة تعريف أدوات سياستها الخارجية في القارة؛ بزيادة الاعتماد على الأداة العسكرية لحسم الصراعات، وترجيح كفّة حلفائها في مناطق نفوذها؟ وكيف تؤثر المصالح الاقتصادية للشركات الفرنسية في قرارات التدخّل العسكري في مناطق الصراع؟ وكيف يرتبط هذا التدخّل العسكري بدعاوى المهمّة الحضارية التي طالما جعلتها فرنسا شعاراً لسياستها في الفترة الاستعمارية وبعد حصول الدول الإفريقية على استقلالها؟

تحاول هذه الدراسة الإجابة عن تلك التساؤلات، لفهم ملامح الاستمرارية والتغيّر في السياسة الفرنسية في إفريقيا، والعوامل المفسّرة للدور العسكري الفرنسي المتزايد في القارة.

أولاً: السياسة الفرنسية في إفريقيا.. المصالح والأدوات:

لم تكن النّخبة السياسية الفرنسية تعتقد أن حصول مستعمراتها السابقة في إفريقيا على الاستقلال الرسمي يعني انحسار نفوذها، بل لم تتقبل فكرة استقلال هذه الدول ابتداءً، فقد أدركت فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية أنّ مجال المنافسة بين القوتين العظميين سوف يتركز في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، وأنّ إفريقيا هي المجال الدولي الأوحد والأنسب لممارسة نفوذها كقوة استعمارية سابقة.

وحرصت فرنسا على وجودها في المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية في القارة، ولعلّ ذلك ما يفسّر احتفاظها بقاعدة عسكرية في (جيبوتي) لمراقبة المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، كما أيقنت فرنسا، كغيرها من القوى الدولية، أهمية الدول الإفريقية – حديثة العهد بالاستقلال – ككتلة تصويتية في الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية.

وفي المجال العسكري؛ وقّعت فرنسا بعد الاستقلال اتفاقيات للدفاع مع عدد من الدول الإفريقية، منها: (الكاميرون، وإفريقيا الوسطى، وجزر القمر، وساحل العاج، وجيبوتي، والجابون، والسنغال، وتوجو)، كما وقّعت مع هذه الدول وغيرها اتفاقيات للتعاون العسكري، تضمّنت مساعدات للجيوش الإفريقية، ومنحاً دراسية وتدريبية للضباط الأفارقة، ولم تقتصر هذه الاتفاقيات على مستعمرات فرنسا السابقة؛ بل توسّعت لتشمل دولاً مثل: (رواندا، وبوروندي، والكونغو الديمقراطية، وغينيا الاستوائية)[1].

واقتصادياً؛ كان يتحتم على فرنسا أن تؤمّن إمدادات المعادن ومصادر الطاقة والمواد الخام الأولية، وبخاصة اليورانيوم والنفط، لصناعاتها المختلفة ولإنتاج الطاقة النووية[2]، وقد كانت فرنسا حتى ثمانينيات القرن الماضي تعتمد بشكل كامل أو شبه كامل على إفريقيا قبل أن تحاول تنويع مصادرها، ففي بداية الثمانينيات كانت تعتمد بشكل كامل على دول إفريقية (أبرزها: النيجر، والجابون، وجنوب إفريقيا) في الحصول على اليورانيوم، لكن انخفض اعتمادها على اليورانيوم الإفريقي إلى 40% في أواخر الثمانينيات.

كما كانت الدول الإفريقية (أبرزها غينيا) توفّر 90% من حاجة فرنسا من البوكسيت، و 76% من المنجنيز (أبرز منتجيه: جنوب إفريقيا، والجابون)، و 59% من الكوبالت (أبرز منتجيه: زامبيا، والكونغو الديمقراطية)، وكان حوالي 70% من النفط الذي تستخرجه شركة (إلف Elf) الفرنسية في الثمانينيات عالمياً يُستخرج من إفريقيا، خصوصاً من: (الجابون، والكاميرون، والكونغو، وأنجولا).

وكانت هذه المصالح الاقتصادية تعني أنّ فرنسا يجب ألا تلتفت كثيراً لطبيعة النُّظم الحاكمة في الدول الإفريقية الغنية بتلك الموارد، لذلك لم يكن غريباً أن تساند فرنسا نظام الفصل العنصري في (جنوب إفريقيا)، وتحاول تعبئة دعم الدول الإفريقية له حتى عام 1985م[3].

كذلك؛ فقد ضمنت سياسة منطقة الفرنك الفرنسي سيطرة فرنسا على السياسة التجارية والمالية لعدد من الدول الإفريقية، حيث مكّنت ست عشرة دولة في غرب إفريقيا ووسطها – حتى منتصف التسعينيات – من التعامل بعملة لها سعر تحويل ثابت في مقابل الفرنك الفرنسي، وفي المقابل التزمت هذه الدول بإيداع 65% من أموالها في الخارج في البنك المركزي الفرنسي، هذا بالإضافة إلى استثمارات الشركات الفرنسية في دول مثل: (ساحل العاج، والجابون، والسنغال، ومالي، وموريتانيا)[4].

وأهمّ ما ميّز السياسة الفرنسية اعتمادها على الأداة الثقافية لتوطيد علاقاتها بالدول الإفريقية بعد الاستقلال، لاعتقاد نخبها السياسية – كما ذكر الباحث الفرنسي (جاك فرانسوا ميدار) – سموّ القيم والتقاليد الفرنسية، وأهمية استيعاب النّخب والمجتمعات الإفريقية ثقافياً، واستخدام دعاوى (المهمّة الحضارية) أداة لإضفاء الشرعية على السياسة الفرنسية الاستعمارية في الماضي، وفيما بعد الاستقلال، وقد وصل عدد المراكز الثقافية الفرنسية في القارة في الثمانينيات إلى 52 مركزاً ثقافياً، وحرصت فرنسا على تقديم المنح الدراسية للطلبة الأفارقة للدراسة في مدن فرنسا الكبرى، وفي 1970م أسّست (المنظمة الفرانكفونية) رسمياً على أساس ثقافي لغوي، لتجمع الدول الناطقة بالفرنسية[5].

من ناحية أخرى؛ كان للفرنسيين المقيمين في الدول الإفريقية – كالمدرسين والموظفين والمستشارين – دور في دعم التواصل الثقافي والمهمّة الحضارية الفرنسية، والتأثير في صنع القرار في هذه الدول، ويلاحظ أنّ عدد الفرنسيين في بعض الدول الإفريقية تزايد بعد استقلالها[6]، ويقدّرون – وفقاً لإحصاءات رسمية فرنسية – بحوالي 240 ألف فرنسي[7].

ثانياً: فرنسا والنّخب الإفريقية.. دعاوى الديمقراطية بين النظرية والتطبيق:

خلال القمة (الإفريقية – الفرنسية)16  عام 1990م، أعلن الرئيس (فرانسوا ميتران) أنّ فرنسا سوف تتبع نهجاً جديداً في علاقتها بالدول الإفريقية، وأنها لن تقدّم مساعدات إلا للدول التي تحقّق تقدّماً في مسار التحول الديمقراطي، وذهب (ميتران) إلى أبعد من ذلك؛ بتأكيد أنّ فرنسا لن تلتزم بمساندة الأنظمة التي تواجه تمرداً عسكرياً إلا إذا كانت هذه الأنظمة ديمقراطية[8].

وقد دفع سقوط بعض حلفاء فرنسا في القارة في اتجاه إعادة التفكير في علاقة فرنسا بالنُّظم التسلطية، ففي 1994م سقط نظام (جوفينال هابياريمانا) في رواندا، وتبع ذلك إبادة جماعية نُسبت لعناصر تمّ تدريبها فرنسياً، وفي 1997م انهار نظام (موبوتو سيسي سيكو) في زائير (الكونغو الديمقراطية حالياً)، والذي دعمته فرنسا ضد (لوران كابيلا) المدعوم أمريكياً، وقد اعتبرت فرنسا أنّ هزيمة حلفائها في (رواندا، والكونغو الديمقراطية) مؤامرة (بريطانية – أمريكية) لتقليص نفوذ فرنسا بإفريقيا.

ومن الأبعاد التي كانت محلاً لإعادة النظر طبيعة الدور الذي تقوم به مؤسسة الرئاسة، من خلال (وحدة إفريقيا) في الإليزيه، في رسم السياسة الفرنسية تجاه إفريقيا، فقد ساد النقاش خلال العقدين الماضيين حول ضرورة إضفاء الشفافية والطابع المؤسّسي على سياسة فرنسا، وساعد على ذلك اختفاء شخصيات مؤثّرة، مثل (جاك فوكار) مهندس العلاقات (الفرنسية – الإفريقية) والمستشار الرئاسي لشؤون إفريقيا من 1960م – 1974م، في عهدي (شارل ديجول) و (جورج بومبيدو)، ثم من 1986م – 1997م، في عهدي (فرانسوا ميتران) و (جاك شيراك).

وقد تعزّز اتجاه المطالبة بإعادة صياغة (سياسة فرنسا الإفريقية) بوصول (نيكولا ساركوزي) للرئاسة 2007م، حيث نُظر إليه بوصفه منتمياً لجيل الرؤساء الجديد الذي تحرّر من روابط العلاقات والشبكات الشخصية، وقد نُسب إلى (ساركوزي) قبل الرئاسة تبنّيه لمطلب التخلّي عن هذه الروابط والشبكات[9]، وتجدّدت التوقعات نفسها بعد انتخاب (فرانسوا هولاند) الذي تعهد بمنح البرلمان الفرنسي دوراً أكبر في الرقابة على سياسة حكومته في إفريقيا، وإغلاق (خلية إفريقيا) في الإليزيه، وأبدى (هولاند) اهتماماً بمحاربة الفساد، وفرض الرقابة على الصفقات الاقتصادية مع دول القارة، وبخاصة صفقات السلاح[10].

لكن يبدو أنّ عنصر العلاقات والروابط الشخصية ظلّ أحد ملامح الاستمرارية في العلاقات (الفرنسية – الإفريقية)، أما دعاوى الديمقراطية؛ فقد اقتصرت على الضغط من أجل تبنّي تعددية حزبية، وإجراء انتخابات تعددية، دون الاهتمام بدعم الحريات السياسية، وحكم القانون، والحدّ من الفساد، ولذلك لم يكن غريباً أن تتقلص المساعدات الفرنسية للدول التي كانت تحرز تقدّماً نحو الديمقراطية في بداية التسعينيات، مثل: (بنين، ومالي)، بينما تزيد للدول التي تحكمها قيادات تسلطية، مثل: (توجو، والكاميرون)[11].

لم يكن غريباً أيضاً أن تستمر علاقات فرنسا القوية بنظام الرئيس (عمر بونجو) في الجابون، الذي حكم بلاده لمدة تزيد على 40 عاماً، ثم بنظام وريثه في السلطة (علي بونجو) الذي تولّى السلطة بعد وفاة والده عام 2009م، ويصدق الأمر نفسه على الرئيس التشادي (إدريس ديبي) الذي وصل إلى السلطة عبر انقلاب عسكري عام 1990م، وتدخلت فرنسا غير مرة لمساندته عسكرياً أو مخابراتياً ضد المظاهرات الشعبية (كما في 1996م)، أو ضد محاولات المتمردين الإطاحة به (كما في 2006م و 2008م)[12].

وبالرغم من ادعاء (ساركوزي) العزم على إضفاء الشفافية والمؤسسية على العلاقات مع إفريقيا؛ فإنّ سياسته لم تختلف كثيراً عن سياسة سابقيه، فقد أيدت فرنسا بقيادته محاولات توريث السلطة في السنغال ﻠ (كريم واد) ابن الرئيس (عبد الله واد)، وحاولت دعم الرئيس (زين العابدين بن علي) في بدايات الثورة التونسية، وقد أثارت بعض التقارير الإعلامية نقاشاً حول مساهمة عائلة الرئيس (عمر بونجو) في حملة ساركوزي الانتخابية[13].

كذلك استمرت سياسة (هولاند) على نهج البراجماتية نفسه الذي يعطي أولوية للاحتفاظ بصداقات فرنسا التقليدية على دعاوى الديمقراطية، ففي أول زيارة له للقارة في أكتوبر 2012م، والتي توجّه فيها إلى (داكار) قبل زيارته لـ (كينشاسا) للمشاركة في أعمال القمة الفرانكفونية، أكّد الرئيس الفرنسي أنه برغم التزام فرنسا الدائم بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان؛ فإنها تحترم استقلال الدول الإفريقية وخصوصيتها، وحريتها في فرض خياراتها، وبرغم مطالبة بعض قوى اليسار الفرنسي بمقاطعة القمة لتوجيه رسالة لنظام (جوزريف كابيلا) برفض سياساته التسلطية؛ فإنّ (هولاند) قرّر المشاركة مع توجيه بعض الانتقادات لنظام (كابيلا)[14].

ومن ناحيتها؛ احتفظت النّخب الإفريقية في مستعمرات فرنسا السابقة بعلاقاتها مع باريس للحصول على دعمها العسكري والسياسي، ففي الفترة من 1963م وحتى 1997م تدخلت فرنسا فيما يزيد على 34 مرة، بشكل مباشر بقواتها في الدول الإفريقية، أو غير مباشر عن طريق جنود مرتزقة، أو بالدعم اللوجيستي أو المالي لبعض أطراف الصراع، تأييداً لنظم وقيادات موالية في مواجهة انقلابات عسكرية، بغضّ النظر عن مدى ديمقراطية هذه النُّظم والقيادات[15].

ثالثاً: الشركات الفرنسية وشبكة المصالح غير الرسمية مع إفريقيا:

كان من بين العوامل التي دفعت للتفكير في إعادة صياغة علاقات فرنسا بإفريقيا في بداية التسعينيات ما أثير من قضايا فساد؛ تربط الشركات الفرنسية برؤساء الدول الإفريقية، فقد تكشّفت فضيحة شركة (إلف Elf) الفرنسية للنفط، والتي كانت تحوّل ما يعادل عشرة ملايين يورو سنوياً لحساب الرئيس (عمر بونجو) في الجابون، كما دفعت مبالغ ضخمة لرؤساء (أنجولا، والكونغو برازافيل، والكاميرون) للحصول على امتيازات للتنقيب فيها، وفي مقابل الدعم السياسي لأنشطة الشركة، والتي كانت مملوكة للدولة حتى 1994م، تبرعت الشركة لحزب الرئيس السابق (جاك شيراك)، ودفعت مبالغ لبعض أصدقاء الرئيس (فرانسوا ميتران)[16].

ولم تقتصر تجاوزات الشركة على رشوة المسؤولين الفرنسيين والأفارقة، بل مارست دوراً في تأجيج الصراعات في بعض الدول بشكل مباشر، كما حدث في (الكونغو برازافيل)، أو غير مباشر، كما حدث في (أنجولا)، واستندت الشركة في هذا على علاقتها القوية بأجهزة المخابرات الفرنسية التي مولّت الشركة بعض عملياتها.

ورصدت إحدى الدراسات تدخّل الأجنحة المختلفة للشركة ورجالها الأقوياء لدعم الأطراف المختلفة للصراع في البلدين؛ لضمان تأمين مصالحها في حال تغلّب أي من طرفي الصراع، ففي الحرب الأهلية في (الكونغو برازافيل) في نهاية التسعينيات، تدخّل أحد الأجنحة في الشركة لدعم (ساسو نجويسو) مادياً ولوجيستياً، بينما تدخّل اَخر مسانداً ﻠ (باسكال ليسوبا)، وتوسط لحصوله على السلاح، وفي (أنجولا) دعمت بعض قيادات الشركة (جوناس سافيمبي) وحركته، إلى أن بدا واضحاً أنّ فرصته في إنهاء الحرب لصالحه ضعيفة، فنقل هؤلاء دعمهم لغريمه (دوس سانتوس)، وساعدوه على توفير السلاح؛ مقابل بيع إنتاج أنجولا المستقبلي من النفط[17].

وبالرغم من تزايد المنافسة الاقتصادية مع القوى الصاعدة، وعلى رأسها الصين، في العقد الأخير، فإنّ فرنسا احتفظت بعلاقات متميزة مع مستعمراتها السابقة، بل وسّعت نطاق علاقاتها الاقتصادية لتشمل منطقة الجنوب الإفريقي، فقد أصبحت فرنسا ثالث أكبر مستورد للنفط الأنجولي، وثاني أكبر مستثمر في البلاد، كما ساهمت كبرى شركات المقاولات الفرنسية في مشروعات البناء التي دشنتها (جنوب إفريقيا) قبل استضافتها لكأس العالم لكرة القدم 2010م، وما زالت فرنسا أحد أكبر المستثمرين في (ساحل العاج)، فبحلول 2007م استحوذت قرابة 150 شركة فرنسية على 68% من الاستثمارات الأجنبية المباشرة في البلاد، وما زالت فرنسا تعتمد على اليورانيوم الإفريقي، وبخاصة يوارنيوم النيجر، لتوليد الطاقة النووية التي توفّر 25% من احتياجاتها من الكهرباء.

وبصفة عامّة؛ فهناك مئات الشركات الفرنسية تستثمر في القارة الإفريقية، في مجالات: البناء (أشهرها شركة لافارج Lafarge)، والنفط (أشهرها شركة توتال Total)، والغاز (أشهرها شركة إير ليكيدAir Liquide)، والاتصالات (منها شركة ألكاتل Alcatel)، والتعدين، وبناء المحطات النووية (من أهمها شركة أريفا Areva)[18].

لكن في الوقت نفسه؛ أصبح حفاظ فرنسا وشركاتها على مصالحها أكثر صعوبة مع تزايد منافسة القوى الدولية الأخرى، وقد يفسّر ذلك تزايد اللجوء إلى الأداة العسكرية لحماية هذه المصالح، فقد استغرقت شركة (أريفا) وقتاً طويلاً للتفاوض لتجديد تعاقداتها مع الحكومة النيجيرية، وواجهت الصعوبة نفسها مؤخراً في تفاوضاتها مع حكومة النيجر.

وقد خسرت بعض الشركات الفرنسية المنافسة أمام شركات صينية وخليجية لبناء مواني وإدارتها في (السنغال، والكونغو برازافيل)[19]، وحاولت فرنسا خلال الأعوام القليلة الماضية تحويل المنافسة مع الشركات الصينية إلى شراكة، فقد وقّعت الحكومة الأوغندية في سبتمبر 2011م – مثلاً – عقوداً للتنقيب عن النفط في (حوض بحيرة ألبرت)، تشترك فيه شركة (توتال) الفرنسية مع شركتين صينية وأيرلندية.

ومن ناحية أخرى؛ تُبدي فرنسا الدعم السياسي لمصالح شركاتها في مواجهة منافسة الشركات الأخرى، ففي مارس 2009م قام (ساركوزي) بزيارة للكونغو الديمقراطية والنيجر برفقة الرئيس التنفيذي لشركة (أريفا) لتأمين حصول الشركة على عقود جديدة، وبعد هذه الزيارة بشهرين قام رئيس الوزراء الفرنسي (فرانسوا فيلون) بزيارة لنيجيريا برفقة الرئيس التنفيذي لشركة (توتال)، واقترح على الحكومة النيجيرية تقديم دعم عسكري لمواجهة المتمردين في دلتا النيجر[20]، وفي زيارة (هولاند) الأخيرة لنيجيريا، التي تركزت محادثاتها في التنسيق الأمني، رافق الرئيس الفرنسي ما يزيد على عشرين ممثل لشركات فرنسية[21].

تدلّ هذه الأمثلة على صعوبة الفصل بين الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية في السياسة الفرنسية في إفريقيا.

رابعاً: إفريقيا في السياسة الأمنية الفرنسية:

إذا كانت شبكات المصالح غير الرسمية، التي تدخل الشركات الفرنسية طرفاً فيها، هي أحد الأدوات المهمّة للسياسة الفرنسية في إفريقيا، فإنّ الأداة الأخرى التي تزايد الاعتماد عليها خلال العامين الماضيين، هي الأداة العسكرية، وكانت فرنسا قد لجأت مع بداية التسعينيات إلى تقليص وجودها العسكري في إفريقيا عن طريق عدد من الإجراءات.

فمن ناحية؛ خفّضت فرنسا عدد القوات بنسبة 40%، وقامت بتصفية قواعدها العسكرية في القارة، فلم تبق إلا ست قواعد في نهاية التسعينيات، تمّ تخفيضها إلى ثلاث قواعد دائمة في: (جيبوتي، والسنغال، والجابون) خلال العقد الأخير، مع الاحتفاظ بقوات محدودة في: (تشاد، وكوت ديفوار، وإفريقيا الوسطى).

ومن ناحية ثانية؛ لجأت فرنسا إلى الأطر الأوروبية الجماعية للتدخّل في القارة؛ لتقليص أعبائها المادية مع المحافظة على وجودها ونفوذها بالقارة، وكان التدخّل ضمن قوات الاتحاد الأوروبي أو الأمم المتحدة، كالمساهمة في القوات الدولية في: (تشاد، والكونغو الديمقراطية)، وسيلة لإضفاء الشرعية على تدخّلها، بعد تجربة رواندا 1994م، والتي كانت علامة فارقة في تاريخ تدخّل فرنسا العسكري في القارة؛ فقد اتهمت فرنسا بمساندة حكومة الهوتو المسؤولة عن عمليات الإبادة بمدّها بالمال والسلاح والتدريب في الفترة من 1990م وحتى 1994م، كما تدخّلت فرنسا عسكرياً لدعم الحكومة الرواندية ضد الحركة الوطنية المعارضة، ومارست ضغوطاً لمنع كشف حقيقة المذابح في وسائل الإعلام، ولمنع الدول الإفريقية من التدخّل لوقفها، وأخيراً كانت فرنسا مأوى العديد من المسؤولين الكونغوليين الذين شاركوا في المذابح[22].

ومن ناحية ثالثة؛ اتجهت فرنسا إلى بناء قدرات المؤسّسات الأمنية الإفريقية عن طريق برنامج Recamp عام 1997م، ليكون إطاراً لدعم فرنسا والمنظمات الدولية لتمكين الجيوش الإفريقية من مواجهة – أو منع – الصراعات الداخلية المسلّحة بنفسها، وساهم برنامج Recamp ومدرسته العسكرية في (مالي) في تدريب مئات الجنود الأفارقة للمساعدة في تشكيل (وحدة التدخّل السريع) التابعة للمنظمات الإقليمية الإفريقية، والتي لم ينته تشكيلها بعد[23].

وأعلن (ساركوزي) – بعد انتخابه – عزمه على إعادة التفاوض حول الاتفاقيات العسكرية التي وقّعتها فرنسا مع الدول الإفريقية بعد الاستقلال، واصفاً إياها بأنها لم تعد مناسبة لمتغيرات القارة، وأنه من غير المتصوّر أن تتدخل فرنسا في الصراعات الداخلية في الدول الإفريقية، وأنّ حفظ السلام هو وظيفة المنظمات الإقليمية الإفريقية، وقد دفع ذلك بعض المحللين إلى القول بأنّ فرنسا قد تغيّر سياستها الإفريقية من التركيز في الأداة العسكرية إلى التركيز في الأدوات الاقتصادية والتجارية، ومن التدخّل العسكري الأحادي المباشر إلى التدخّل الجماعي غير المباشر[24].

لكن هذه التوجهات لا تعني تراجع أهمية إفريقيا في السياسة الأمنية والدفاعية لفرنسا خلال العقدين الماضيين، فما زالت فرنسا تحتفظ بأغلب قواتها الدولية الدائمة في إفريقيا، فقد أعلنت وزارة الدفاع الفرنسية في فبراير 2013م أنه من بين قرابة 10000 جندي فرنسي يشاركون في عمليات خارجية، يوجد 4600 جندي في غرب إفريقيا، وما يزيد على 2100 جندي في وسط إفريقيا، بالإضافة إلى 270 جندياً في خليج عدن للمشاركة في مواجهة القرصنة[25].

وقد وضعت الخطة الاستراتيجية لوزارة الدفاع المعلن عنها في أبريل 2013م وضعاً خاصاً لإفريقيا في السياسة الأمنية والدفاعية لفرنسا؛ محددة مناطق: (الساحل الإفريقي، وخليج غينيا (الغني بالنفط)، والمغرب العربي) بوصفها مناطق ذات أولوية في التعاون الدفاعي مع الشركاء الأفارقة، وقد ربطت الورقة بين الاعتبارات الاقتصادية والأمنية في صياغة سياسات التعاون في هذه المناطق[26].

كذلك لم تتراجع سياسة فرنسا عن التدخّل الأحادي عند الضرورة لدعم حلفائها في إفريقيا، فبالإضافة إلى التدخّل في (تشاد) – كما سبق – تدخّلت فرنسا في (ساحل العاج) في أبريل 2011م لمساعدة الرئيس المنتخب (الحسن واتارا) على السيطرة على تمرد قوات غريمه (لوران جباجبو) الذي رفض تسليم السلطة للرئيس الجديد، وبرغم زعم فرنسا بأنّ التدخل كان لحماية المدنيين؛ فإنّ التدخّل لم ينه معاناة مئات الاَلاف من المواطنين الأيفوريين الذين فرّوا من ديارهم بسبب العمليات العسكرية[27].

وبعد شهور من انتخاب (هولاند) لم يتردد في التدخّل في (مالي) في يناير 2013م لمنع تقدّم قوات المعارضة الشمالية من العاصمة (باماكو)، بعد إعلان هذه القوات لدولة مستقلة في الشمال قبل نحو تسعة أشهر، وقد استفادت فرنسا من قاعدتها العسكرية في (داكار) بالسنغال وقواتها الموجودة بتشاد في عملياتها في (مالي)، وأعلنت أنها ستحتفظ بقوة كافية في البلاد لمنع عودة سيطرة (الحركات الإسلامية المسلّحة) على المواقع التي أخرجتها منها.

ولكن (هولاند) حرص على طلب الدعم من الحلفاء الأوروبيين لتحمّل تكلفة التدخّل، فقدّمت المملكة المتحدة دعماً لوجيستياً، وعززت القوات الفرنسية بنحو 300 جندي للمشاركة في أعمال غير قتالية، كما أقنعت فرنسا الاتحاد الأوروبي بتدريب بعثة قوات حفظ السلام الإفريقية التي أرسلت إلى (مالي)، ولإضفاء مزيد من الشرعية على التدخّل، الذي سعت فرنسا أن يكون بناءً على قرار من مجلس الأمن، عقدت فرنسا مشاورات مع عدد من القادة الأفارقة، ومنهم رئيس كلٍّ من (جنوب إفريقيا، والجزائر)، للحصول على تأييدهم[28].

كذلك تتعاون فرنسا مع الولايات المتحدة في تنفيذ عمليتها في الساحل الإفريقي، فخلال زيارة (هولاند) إلى الولايات المتحدة في فبراير الماضي، صرّح الرئيسان الأمريكي والفرنسي أنّ البلدين يتعاونان في جهود ما يسمّونه (مكافحة الإرهاب)، وأنّ الولايات المتحدة تقدّم الدعم اللوجيستي والاستخباراتي لقوات فرنسا والاتحاد الإفريقي في (مالي)[29].

وفي الوقت الذي أبدت فيه فرنسا استعداداً لتحمّل العبء المادي لاستمرار وجودها العسكري في إفريقيا، والذي يتكلف وفقاً للتقديرات الرسمية قرابة 400 مليون يورو سنوياً، إلى جانب تكلفة عملياتها في (مالي) التي تقدّر بنحو 300 – 400 مليون يورو، فإنها كانت أقلّ استعداداً لزيادة المساعدات التنموية للدول الإفريقية، ففي 2011م انخفض إجمالي المساعدات الخارجية لفرنسا نحو 4%، لتصل إلى 9,4 ملايين يورو، وانخفضت نسبتها إلى الناتج المحلي الإجمالي لفرنسا من 0,5% إلى 0,46%.

ولا يبدو أنّ فرنسا سوف تحقّق النسبة المستهدفة لنسبة المساعدات من الناتج القومي الإجمالي التي اقترحتها الأمم المتحدة، وهي 0,7% سنوياً، خلال رئاسة (هولاند)، فبرغم أنّ ميزانية 2013م لم تتضمّن تخفيضاً في المساعدات التنموية؛ فإنّ الحكومة الفرنسية وعدت بزيادة هذه المساعدات في حالة زيادة معدل النمو[30].

خامساً: فرنسا والمهمّة الحضارية المزعومة.. من التحرير من التخلّف إلى التحرير من خطر الحركات الإسلامية:

كما سبقت الإشارة؛ فإنّ فرنسا أقامت سياستها الإفريقية – في فترة الاستعمار وما بعده – على عقيدة (المهمّة الحضارية) وفلسفتها القائمة على الاقتناع بسموّ قيم الجمهورية الفرنسية وثقافتها، وكان ذلك تعبيراً عن الوعي الجمعي للنّخبة السياسية والثقافية الفرنسية؛ لكنه تحول بعد الاستعمار إلى ورقة التوت التي تغطي طموحات فرنسا وتطلعاتها السياسية والاقتصادية، على حدّ تعبير الباحث (إيان تايلور)[31].

وقد استمر تغليف المصالح الفرنسية في إفريقيا بخطاب (المهمّة الحضارية) الذي عكس تجذّر منظور الوصاية الأبوية في ثقافة النّخبة الفرنسية، وبدا ذلك واضحاً في خطاب الرئيس (ساركوزي) في (داكار) في يوليو 2007م، مما أثار استياء الساسة والمفكرين الأفارقة من الدور الفرنسي في إفريقيا، فبرغم اعتراف (ساركوزي) بأنّ القوى الغربية قد ارتكبت أخطاءً تاريخية في حقّ الدول الإفريقية، واستغلت ثرواتها المادية والبشرية، فإنّه أكّد أنه يجب على إفريقيا ألا تلقي بمسؤولية تخلّفها على القوى الاستعمارية! وفيما اعتبره الأفارقة إهانة للثقافة والتاريخ الإفريقي؛ أشار (ساركوزي) إلى أنّ مشكلة إفريقيا الأساسية أنها «لم تدخل التاريخ؛ لأنها لم تلحق بركب التقدّم، وظلّت أسيرة لحلم العودة إلى عهد ذهبي سابق؛ لم يتحقق يوماً على أرض الواقع»[32].

ويبدو مع تزايد دور الحركات الإسلامية المسلّحة في إفريقيا أنّ فرنسا قد وجدت سبباً آخر يدعم مهمتها الحضارية المزعومة، فبعد أن كانت مهمّة فرنسا مساعدة القارة في اللحاق بركب التقدّم وإنقاذها من براثن التخلّف؛ أصبحت المهمّة الجديدة – كما تدعي النّخبة الفرنسية – حماية إفريقيا من (التطرف والإرهاب)، فبعد أيام من تدخّل القوات الفرنسية في (مالي) صرّح (هولاند) بأنّ فرنسا «اتخذت قراراً جريئاً بالتدخّل؛ لأنه كان من المهمّ أن تحارب الإرهاب في مالي، وفي وسط إفريقيا، وفي كلّ مكان، وبذلك تكون فرنسا قد تصرفت وفقاً لما يقتضيه تاريخها، وقيمها الجمهورية»، وأضاف (هولاند) مخاطباً الماليين: «إنّ بلادكم سوف تشهد استقلالاً جديداً، لن يكون هذه مرة انتصاراً على النظام الاستعماري، ولكن انتصاراً على الإرهاب، وعدم التسامح، والتشدد»[33]، وبعد نحو 9 أشهر من التدخّل الفرنسي في (مالي)، وفي حفل تنصيب الرئيس المنتخب الجديد (إبراهيم بوبكر كيتا)، أعلن (هولاند) أنّ فرنسا قد انتصرت في حربها على (الإسلاميين المتطرفين) في (مالي)، مذكّراً الجميع بأنه «لولا التدخّل الفرنسي لكان الإرهابيون قد وصلوا إلى العاصمة (باماكو)»[34].

ولا تقتصر مهمّة فرنسا الجديدة على مستعمراتها السابقة وحلفائها التقليديين، فقد أعلن (هولاند) في زيارته المهمّة لنيجيريا في 27/2/2014م دعم بلاده للحكومة النيجيرية في حربها ضد (بوكو حرام)؛ زاعماً أنّ نضال الشعب والحكومة النيجيرية هو نضال فرنسا، «فالنضال ضد الإرهاب هو النضال من أجل الديمقراطية»[35].

وفي الوقت نفسه؛ فإنّ فرنسا – كما سبقت الإشارة – تعاملت مع النُّظم الحاكمة في إفريقيا وفقاً لمعيار موالاتها – أو إمكانية تحالفها – مع فرنسا في وجه قوى منافسة أخرى، ومعيار الأهمية الاستراتيجية للدولة المعنية، بغضّ النظر عن توجّهات هذه النُّظم، لذلك لم يكن غريباً أن تدعم فرنسا نظام الرئيس (حسن البشير) في السودان برغم أجندته الإسلامية، في إطار منافستها للولايات المتحدة في التسعينيات، ولأهمية السودان بموقعه وموارده الطبيعية، وبخاصة النفط[36].

سادساً: إفريقيا الوسطى.. تدخّل فرنسي بغطاء دولي أوروبي:

ويبرز التدخّل الفرنسي في (إفريقيا الوسطى) بوصفه مثالاً لملامح الاستمرارية في السياسة الفرنسية في إفريقيا، فهو نموذج لاستخدام الأداة العسكرية لحماية المصالح السياسية والاقتصادية تحت غطاء حماية سيادة إفريقيا الوسطى ووحدة أرضها، وحماية المدنيين من العنف الطائفي، والتدخّل الفرنسي في إفريقيا الوسطى ليس جديداً، فقد احتفظت فرنسا بقاعدة عسكرية في العاصمة (بانجي)، وتدخلت لدعم انقلاب (ديفيد داكو) على الديكتاتور (جان بيديل بوكاسا) عام 1979م.

وبعد تصفية قاعدتها العسكرية في إفريقيا الوسطى عام 1997م، في إطار تخفيض وجودها العسكري في القارة، احتفظت فرنسا بنحو 300 جندي بحجّة حفظ السلام في البلاد، وقد دعمت هذه القوات انقلاب (فرانسوا بوزيزيه) على الرئيس المنتخب (أنجي – فيليكس باتاسيه) عام 2003م، كما دعمت (بوزيزيه) في صراعه ضد قوات المعارضة المسلّحة في الشمال والوسط منذ 2005م، وقد منعت القوات الفرنسية تقدّم القوات المعارضة في لحظات حاسمة، كما في أواخر 2006م، ومكّنت الجيش من إعادة السيطرة على بعض المدن[37].

وهناك مصالح اقتصادية عديدة تقف وراء تمسك فرنسا بوجودها العسكري في إفريقيا الوسطى، فهي غنية بالموارد الطبيعية، وبخاصة الذهب والماس واليورانيوم، وتستثمر الشركات الفرنسية في اليورانيوم في شمال البلاد، كما أنّ موقعها مهم للوصول إلى الموارد الطبيعية في الدول المجاورة، فهي تؤمّن إمدادات النفط للشركات الفرنسية العاملة في (تشاد)، والموارد المعدنية في (الكونغو الديمقراطية)، و (اليورانيوم) في النيجر[38].

وحينما تجدّدت المواجهات مع قوات المعارضة الشمالية، والداعمة للرئيس (ميشيل جوتوديا)، على خلفية اتهام المعارضة للرئيس (بوزيزيه) بعدم الالتزام بالاتفاقات الموقّعة بين الجانبين عامي 2007م -2008م، ترددت فرنسا في التدخّل لدعم (بوزيزيه) حتى بعد الإطاحة به في مارس 2013م، ولكن بعد تزايد المواجهات، بشكل هدّد بانهيار الدولة وتأثر المصالح الغربية الاقتصادية والأمنية، تدخّلت القوات الفرنسية مدعومة بقوات إفريقية.

وفي وضع مشابه لما حدث في (مالي) لم تمنع القوات الفرنسية المذابح التي ارتكبت في حقّ مدنيين مسلمين في العاصمة (بانجي) والمدن الأخرى في شمال البلاد وغربها، والتي وصلت إلى الإبادة الجماعية والتهجير الكامل للمسلمين، على حدّ وصف تقرير لمنظمة العفو الدولية، فقد أكّد تقرير المنظمة أنّ القوات الفرنسية أحجمت عن التصدي للميليشيات التي ارتكبت هذه المذابح، وسمحت لها بأن تملأ الفراغ الذي خلّفه انسحاب الميليشيات الموالية للرئيس (جوتوديا)[39]، والجدير بالذكر أنّ البرلمان الفرنسي قد وافق في فبراير بأغلبية كبيرة على تمديد العملية العسكرية الفرنسية في إفريقيا الوسطى؛ معتبراً أنّ التدخل الفرنسي جاء لحماية الأمن القومي الفرنسي!

وبالرغم من أنّ فرنسا سارعت بطلب دعم الحلفاء الأوروبيين في مهمتها في إفريقيا الوسطى، فإنّ دعم الاتحاد الأوروبي تركز في الدعم المادي للعمليات العسكرية، وعمليات الإغاثة الإنسانية، خصوصاً في ظلّ إحجام العديد من الدول الأوروبية الفاعلة في الاتحاد، وعلى رأسها المملكة المتحدة وألمانيا وإيطاليا، عن إرسال قوات مقاتلة، والاكتفاء بتقديم الدعم اللوجيستي أو تدريب القوات الإفريقية.

ويُعيد ذلك طرح التساؤل حول ما إذا كانت فرنسا تسعى إلى تعزيز وجودها العسكري في القارة بتمويل وغطاء دبلوماسي جماعي أوروبي؟ وحول ما إذا كان التدخل العسكري في حالات الصراع المعقدة التي تحمل بعداً اقتصادياً وسياسياً ودينياً كفيلاً بحلّ هذا الصراع؟ فبعد أكثر من عام على التدخّل في (مالي) اتضح أن الحلّ العسكري لم يجلب الاستقرار للبلاد؛ لأنه جاء بديلاً للحلّ السياسي الشامل الذي يعالج جذور الصراع وأسبابه، وبرغم ذلك تكرّر فرنسا وحلفاؤها في القارة وخارجها الخطأ نفسه في (إفريقيا الوسطى)، وليس من المتوقع أن تكون النتيجة مختلفة.

المصدر: مجلة قراءات أفريقيةـ العدد 20