المسطرة الخطأ في تأديب القضاة / ذ يعقوب السيف
على المواقع الإخبارية الموريتانية خبر عن أن: السلطات أوقفت عمل أحد قضاة الحكم، وعن قرب مثوله أمام الجهة التأديبية للقضاة، ومع ذكر وتحديد اسم ذلك القاضي والمحكمة التي يرأس، فضلا عن مسطرة التحقيق التي أوقعت به والقائم عليها وطبيعة الوقائع المسندة له والتاريخ المتوقع للمثول…!
تسريب كل تلك المعلومات عن قرار مؤقت متخذ لمصلحة العمل القضائي يفترض:” أن لا يذاع للجمهور” وفق عبارة (المادة 51-1) من النظام الأساسي للقضاء في فرنسا “الأمر القانوني رقم :58-1270، بتاريخ 22 ديسمبر 1958، المعدل”. وبتعبير (المادة 36/الفقرة الاخيرة) من القانون :94-012، الصادر بتاريخ: 17 فبراير 1994، المتضمن النظام الأساسي للقضاء في موريتانيا:”… ولا يحق أن ينشر هذا القرار…” يمثل خرقا سافرا للقانون ويناقض الغرض من السماح بمثل ذلك القرار (مصلحة العمل القضائي وهيبة القضاة).
أصلا الصياغات الواردة في الخبر المتداول بنسبة القرار للسلطات بشكل مبهم وعام:” أوقفت السلطات” مع أن مصدر القرار هو وزير العدل ، وجعل المفعول به المباشر هو العمل وليس القائم به الذى هو القاضي “أوقفت السلطات عمل رئيس محكمة مقاطعة”، تظهر التحرج من استخدام تعبير نص (المادة 36/جديدة) من النظام الأساسي للقضاء التي أعطت لوزير العدل، في خرق للدستور، تلك السلطة على قضاة الحكم:” إذا أسندت إلى أحد قضاة الحكم وقائع أو تصرفات على درجة من الخطورة يمكن التعرف عليها بوضوح فلوزير العدل في حالة الاستعجال وبعد أخذ الرأي المطابق من رئيس المحكمة العليا والمدعي العام لدى نفس المحكمة أن يحظر عليه ممارسة وظائفه إلى أن يتخذ قرار نهائي في المتابعة التأديبية.”
كذلك حال الصياغات المستخدمة في تحديد جهة التأديب:” المجلس التأديبي” مواقع الأخبار، أقلام… ، وتعبير:” الهيئة التأديبية”، حسب مواقع أخرى، فهى بالغة الدلالة أيضا؛ حيث يصعب منذ استحدث الدستور وجود تشكيلتين للمجلس الأعلى للقضاء تختص إحداهما في القضاء الجالس والثانية في قضاة النيابة العامة، أن يعتمد على ما كان أورد النظام الأساسي للقضاء قبل وجود ذلك التحديد الدستوري، من اقتصار دور تينك التشكيلتين على مجال التأديب، فضلا عن ما تمثله عضوية المفتش العام للإدارة القضائية والسجون فى كل تشكيلة تأديبية (المادة 48 /جديدة/ن.أ.ق)، من مساس بمبادئ : فصل السلطات “الدستوري” وعدم الجمع بين التحقيق والحكم “الإجرائي” والمبدأ المصاحب له بعدم الطرفية نظرا لكون إدارته هي الجهة التي وجه تحقيقها بتقرير المتابعة بشأن ما ينسب لمن يمثل من القضاة أمام تلك التشكيلة، وعلى ضوء الطبيعة الإدارية لوظيفته وعلاقتها الارتباطية مع عضو السلطة التنفيذية ،وزير العدل، و في ظل كون القرار التأديبي يتخذ بأغلبية الأعضاء.
بدأت المسطرة التأديبية معيبة، وهي محكوم عليها بنهاية مماثلة في ضوء غياب المواءمة بين المقتضيات الدستورية والقانون النظامي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاء (فقرة 1) والحاجة للتخلص من المقتضيات غير الدستورية داخل ذلك النظام (فقرة2) وضرورة تلافى ما شاب ما تقدم من القرارات التأديبية الصادرة عن المجلس (فقرة 3).
أولا: أولوية تحيين وتفعيل النصوص الناظمة للمجلس الأعلى للقضاء وهيئاته:
التعديل الذي أدخله القانون الدستوري: 2012-015، بتاريخ 20 إبريل 2012، على (المادة 89) من الدستور وحمل إضافة فقرة عن تركيبة جديدة للمجلس الأعلى للقضاء:” يتألف المجلس الأعلى للقضاء من تشكيلتين إحداهما مختصة في القضاء الجالس والأخرى مختصة في قضاة النيابة العامة”، فوق إهماله لتحديد اختصاص الهيئة العامة للمجلس، فإنه في ما حدد لما يجد له تكريسا في عمل المجلس حتى حينه ولم تباشر أي محاولة لمواءمة مقتضيات القانون النظامي المحدد لتنظيم وسير المجلس الأعلى للقضاء مع ما جاء به، حيث انصرفت التعديلات المباشرة على ذلك القانون- القانون :94-012، الصادر بتاريخ: 17 فبراير 1994، المتضمن النظام الأساسي للقضاء، المعدل بالأمر القانوني رقم :2006-016، الصادر فى :12 يوليو 2006- إلى أمور متعلقة بالترقية وسن التقاعد على نحو ما حمل القانون النظامي :2020-031، بتاريخ 08 دجمبر 2020.
القانون النظامي أكثر من ذلك معني نصا بتنظيم وسير المجلس، أما المسئوليات بالنسبة للهيئة فمرجعتيها الدستور الذي نص على وجود تشكيلتين تختص كل منهما بفئة من القضاة، ومن غير المنطقي أن ينصرف المقصود بالاختصاص الذي حمله التعديل إلى مجرد مجال “التأديب “، فقضاة الحكم والنيابة يحتاجون ويستحقون في سبيل تمكينهم من أداء مهامهم العظيمة الكثير غير ذلك.
بالمحصلة ينص الدستور على تشكيلتين داخل المجلس الأعلى للقضاء حدد دورهما على أساس من تختصان فيه (قضاء الحكم- قضاة النيابة)، بينما ينص القانون النظامي على تشكيلتين اعتمد في تحديد اختصاصهما على طبيعة المهمة المسندة لهما (التأديب).
إعادة تنظيم هيئات المجلس الأعلى للقضاء في ضوء المقتضيات الدستورية إذا أولوية، وشرط لقيام أي منها بالمسند لها من اختصاصات بما فيه التأديبي منها.
تقدم الحالة الفرنسية ما يمكن الاسترشاد به في هذا الخصوص؛ فالمادة 65 من دستور 4 أكتوبر 1958، المعدل، تقيم هيكلة للمجلس تضم ثلاث تشكيلات:
-تشكيلة خاصة بالقضاء الجالس تضطلع بدورين: فهي تعطى الرأي بشأن تعيين قضاة محكمة النقض ورؤساء محاكم الاستئناف، في حين يتم تعيين باقي قضاة الحكم بما يطابق رأيها.
هي كذلك تعد الجهة المختصة بالتأديب بالنسبة لقضاة الحكم، وعند ممارستها لذلك الدور يتم توسيع تشكيلتها لتضم قضاة النيابة أعضاء التشكيلة الخاصة بقضاة النيابة.
-التشكيلة الثانية: مختصة بقضاة النيابة وحددت تشكيلتها ومسئولياتها على نحو ما لسابقتها من أدوار استشارية وتأديبية.
-التشكيلة الجامعة ولها تركيبة جامعة للقضاءين وتعنى بتقديم الاستشارة لرئيس الجمهورية باعتبار التكليف الدستوري للمجلس بمعاونته في مسئوليته بضمان استقلال القضاء، كما وتعنى بالأمور المتعلقة بأخلاقيات القضاة، وكل مسألة تتعلق بسير القضاء يبلغها بها وزير العدل.
ثانيا: الحاجة إلى استبعاد المقتضيات غير الدستورية:
يتعلق الأمر بمقتضيات سارية تحكم مجال التأديب ضمن القانون النظامي المتضمن للنظام الأساسي للقضاء، رغم أن المجلس الدستوري أقر عدم دستوريتها مثل:
1-حالة (المادة 36): والتي في صياغتها التي وردت بها عند إبلاغ المجلس الدستوري بالقانون النظامي المتضمن النظام الأساسي للقضاء بتاريخ: 12 يوليو1993، كانت كالتالي:” إذا عرضت على وزير العدل شكاية أو خبر بوقائع يظهر من طبيعتها أنها تؤدي إلى متابعة تأديبية ضد أحد القضاة يمكنه في هذه الحالة الاستعجال وبعد استشارة رؤساء هذا القاضي التسلسليين، أن يحظر عليه ممارسة وظائفه إلى أن يتخذ قرار نهائي في المتابعة التأديبية(…)”، قدر المجلس في قراره رقم:07/أ. م، بتاريخ :21 يوليو 1993 بشأنها أنها مخالفة للدستور من ثلاث نواح:
-لكونها بإعطائها لعضو السلطة التنفيذية وزير العدل توقيع مثل ذلك التوقيف على عضو في السلطة القضائية تنتهك مبدأ استقلالية القضاء؛
-أنها تتجاهل المبدأ الدستوري بأصل البراءة؛
-عدم خطورة الوقائع أو التصرفات.
: ” ونظرا إلى أن الأمر لا يتعلق بعقوبة تأديبية إنما بإجراء إداري يهدف إلى تفادي العواقب السيئة لإبقاء قاض مشكوك فيه. ونظرا في هذه الحالة إلى أنه بإعطاء السلطة لوزير العدل وليس إلى الجهة المخولة بالسلطة التأديبية من جهة، ومن جهة أخرى، بالرجوع إلى شكاية أو خبر بوقائع يظهر من طبيعتها أنها تؤدي إلى متابعة تأديبية وليس إلى وقائع أو تصرفات على درجة من الخطورة ويمكن التعرف عليها بوضوح، فإن المادة 36 من القانون النظامي المعروض على المجلس الدستوري قد تجاهلت، بالنظر إلى خطورة الإجراء المنصوص عليه، مبدأ استقلالية القضاء كما تجاهلت مبدأ افتراض البراءة الذي تطرحه المادة 13 من الدستور.”
الظاهر من الصياغة النافذة ل (المادة 36/جديدة) ” إذا أسندت إلى أحد قضاة الحكم وقائع على درجة من الخطورة يمكن التعرف عليها بوضوح فلوزير العدل في حالة الاستعجال وبعد أخذ الرأي المطابق من رئيس المحكمة العليا والمدعي العام لدى نفس المحكمة ان يحظر عليه ممارسة وظائفه إلى أن يتخذ قرار نهائي في المتابعة التأديبية (…) “، أنها اقتصرت بخلاف صياغتها المقضي بعدم دستوريتها على قضاة الحكم!، وتغلبت على عيب عدم الدستورية المرتبط بتوصيف الوقائع المنسوبة للقاضي بتوصيفها بأنها: “وقائع على درجة من الخطورة”، لكنها بقيت موصومة بعدم الدستورية من جهة: “انتهاك استقلالية القضاء وتجاهل افتراض البراءة”؛ إذ من غير المنطقي أن تبرر “خطورة الوقائع” -الوزير هو من يقدر تلك الخطورة- تجاوز مبدأي فصل السلطات وأصل البراءة:
لذلك يبقى التمسك بعدم دستورية (المادة 36) هذه مبررا ،رغم أن قرار المجلس الدستوري رقم:09/إ. م، بتاريخ:14 فبراير 1994 قد أضفى الدستورية على تلك الصياغة التي احتاج البرلمان لقرابة السبعة أشهر للتوصل لها وتقديمها كصياغة تتقيد بمقتضيات قرار المجلس :07/أ م ، بتاريخ 21 يوليو 1993 ، بشان دستورية النظام الأساسي للقضاء ، وذلك دون أن يتحقق لها ذلك فعليا على نحو ما تم توضيحه ، ما يسقط القرار المتأخر ( رقم:09/إ. م) في ما خالف فيه القرار المتقدم ( 07/أ .م ) من منطلق إلزامية قرارات المجلس الدستوري لجميع السلطات بنص (المادة 87/جديدة) من الدستور وبما فيها هو نفسه وفق ما أقرت تلك المادة وأقر هو فى قراره رقم:003/ق. م، بتاريخ :4 يوليو 1992.
من واقع تجربة إلحاق (المادة 104) بالدستور، ليس غريبا أن يكون ما قدم للمجلس واتخذ على أساسه القرار: 09/إ. م المتعلق بافتحاص مطابقة أحكام نص القانون النظامي المتضمن النظام الأساسي للقضاء مع أحكام الدستور ومدى التقييد بما وجه به قراره رقم 07/إ. م، بشأن ذلك القانون عند عرضه الإلزامي قبل إصداره، أن يكون ما تم إصداره ونشره شيئا غير الذي قدم للمجلس، إذ كيف لهيئة القضاء الدستوري أن تعارض نفسها في حكمها بشأن دستورية نفس القانون!
داخل نص المادة ذاتها نجد أن قرار الوزير معلق على رأيين مطابقين؛ من المدعي العام لدى المحكمة العليا الذي يتبع له هرميا ويخضع لتقويمه بعد أخذ رأي رئيس المحكمة العليا (المادة 25/ ن.أ. ق).
و من رئيس المحكمة العليا المؤهل وظيفيا للاستقلال عن وزير العدل وأكثر من ذلك –نظريا-عن السلطة التنفيذية، ما كان ليرتب في ظل توافر آلية تمكنه من ملاحظة ما يرتكبه قضاة الحكم من أخطاء تستحق الإنذار باعتبار ما له من سلطات–خارج مجال التأديب- بذلك الخصوص وفق (المادة 33/ ن.أ. ق)، أن يكون دوره أكثر من مجرد إبداء للرأي في هذا المجال ؛ إذ الطبيعي أن يتعالق مثل ذلك الإنذار مع العمل التفتيشي الكاشف للأخطاء الذي تقوم به المفتشية العامة للإدارة القضائية والسجون (كل منهما سبب للآخر)، ما يفترض أن ينتج عنه أن يكون قرار وزير العدل بحظر ممارسة أي قاض لوظائفه لاحقا على الإنذار المرتب للتفتيش أو المبني عليه.
في فرنسا، التي تقتبس منها أغلب النصوص الوطنية، تقتصر سلطات وزير العدل في نفس الحالة المذكورة في المادة 36 /ن.أ.ق) في موريتانيا، على مجرد أن يقترح على المجلس الأعلى للقضاء ما يعطي النص الموريتاني للوزير.
(المادة36/جديدة) تقابل في القانون الفرنسي المواد (50) و(51-1) و (58). ، حيث تنص المادة 50 على:” أن حامل الأختام وزير العدل إذا عرضت عليه شكاية أو أحيط بوقائع تبدو من طبيعتها مبررة لمتابعات تأديبية، يمكن إذا استدعت الضرورة وبعد أخذ رأي الرؤساء الهرميين أن يقترح على المجلس الأعلى للقضاء أن يحظر على قاضي حكم محلا لتحقيق إداري أو جنائي ممارسة وظائفه حتى صدور قرار نهائي في المتابعات التأديبية” .
أما المادة 50-1 فقد أعطت ذات الصلاحيات لرؤساء محاكم الاستئناف والمحاكم العليا للاستئناف، “وفي هذه الحالة ينعقد المجلس الأعلى للقضاء في غضون 15 يوما”
وفي جميع الحالات فإن التوقيف المؤقت المتخذ لمصلحة العمل القضائي لا يذاع للجمهور ولا يتضمن الحرمان من أي حقوق ولا معاملات. على أنه وبعد انقضاء أجل شهرين من تبليغ التوقيف المقرر من الهيأة التأديبية إذا لم يحط المجلس الأعلى للقضاء وفق الشروط المقررة في المواد (50) و (50-2) فإن التوقيف المؤقت يتوقف بفعل القانون عن إنتاج أثره.
بالنسبة للمادة (58) فإنها تنص على أن قضاة النيابة يخضعون لذات الإجراءات المنصوص عليها في حق قضاة الحكم الواردة في المادتين.
2-حالة (المادة 45 /جديدة /ن.أ. ق) التي جات في الصيغة التي وردت بها إلى المجلس الدستوري بتاريخ :12 يوليو1993:”يبت المجلس الأعلى للقضاء بقرار مسبب غير قابل للطعن، غير أن المجلس يمكن أن يراجع قراره في حالة خرق (حقوق الدفاع)”، وقرر المجلس عدم دستوريتها تأسيسا على أنه:
” نظرا إلى أن حرية ممارسة حق الطعن القضائي تشكل في هذه الحالة ضمانا أساسيا لاستقلالية القضاة، وبالتالي ووفقا للمبادئ العامة للقانون، لا يمكن للمشرع النظامي التنكر لحق القضاة في تعقيب قرارات المجلس الأعلى للقضاء التي تعنيهم؛ وإلى أنه ينتج عن ذلك أن أحكام المادة 45 من القانون النظامي المعروض على المجلس الدستوري غير مطابقة للمادة 89 من الدستور”
الصيغة النافذة من (المادة 45) هي: “تبت التشكيلة التأديبية المختصة بالمجلس الأعلى للقضاء بقرار مسبب ويمكنها أن تراجع قرارها في حالة خرق المادة 43 من النظام الأساسي للقضاء (…).
ما عدى الحالة المنصوص عليها في المادة 45 المشار إليها أعلاه فإن قرارات المجلس الأعلى للقضاء غير قابلة لأي طعن.”
أبدل البرلمان في الصياغة التي وردت في (المادة 45) أول عرض لها على المجلس، والتي تنص على:”(…) غير أن المجلس يمكن أن يراجع قراره في حالة خرق (حقوق الدفاع)” بصياغة تحصر حالة التماس المراجعة من المجلس بالمساس بما ورد في (المادة 43) من ضمان أنه:” للقاضي حق الاطلاع على ملفه وكل وثائق البحث وعلى التقرير المعد من طرف المقرر. ولوكيله حق الاطلاع على نفس الوثائق”.
رغم أن “حقوق الدفاع” التي استخدمت (المادة 45) في الصيغة التي اعتبرها قرار المجلس الدستوري 07/أ م، غير دستورية أوسع نطاقا من “حق القاضي في الاطلاع على كل وثائق ملفه “في صياغتها النافذة. ورغم أن المتاح للقاضي لم يختلف بين الصياغتين، حيث ظل “المراجعة” وبتعبير يقربها من أن تكون مكنة للمجلس لا للقاضي:”(…) غير أن المجلس يمكن أن يراجع قراره في حالة خرق (حقوق الدفاع)”(المادة 45) عند عرضها على المجلس أول مرة، أو:” ويمكنها أن تراجع قرارها في حالة خرق المادة 43 من النظام الأساسي للقضاء” عند عرضها الثاني. رغم كل ذلك، فإن قرار المجلس الدستوري رقم 09/أ م، بتاريخ:14 فبراير 1994على ما يبدو لم يقف عند هذه الحقائق!
الطبيعي أن القرارات التأديبية الصادرة عن المجلس الأعلى للقضاء لا يمكن أن تخرج عن أحد أمرين: أن يكون قد اتخذها بصفته هيئة إدارية أو جهة قضائية، وفى كلتا الحالتين فليس من مبرر لتحصينها ضد الطعن، فضلا عن كون ممارسة:” حق الطعن القضائي تشكل في هذه الحالة ضمانا أساسيا لاستقلالية القضاة، وبالتالي ووفقا للمبادئ العامة للقانون لا يمكن للمشرع النظامي التنكر لحق القضاة في تعقيب قرارات المجلس التي تعنيهم” حسب قرار المجلس الدستوري الموريتاني :07/إ. م
في الجزائر راوح اجتهاد مجلس الدولة بين النظر للقرارات التأديبية للمجلس الأعلى للقضاء على أنها قرارات إدارية صادرة عن سلطة إدارية مركزية، وبالتالي فهي قابلة للطعن فيها بالإبطال، وبين مذهبه منذ العام 2005، حيث أصبح يعتبرها قرارات قضائية صادرة عن جهة قضائية متخصصة، تصدر أحكاما وقرارات ابتدائية نهائية لا تقبل الطعن إلا بالنقض أمامه.
أما في فرنسا، فإن مجلس الدولة قد أعطى لنفسه منذ سنة 1969 (قرار ليتانج- décision L’Étang) ممارسة الرقابة بالنقض على قرارات المجلس الأعلى للقضاء.
ثالثا: تجاوز ما شاب القرارات التأديبية السابقة:
آلآن وقد قضي الأمر وتحدد بحر الشهر الجاري أجلا لالتئام جلسة الهيئة التأديبية للمجلس، مع يقين بالتوجه للإدانة، رغم الخلل البيٍن في النصوص والمساطر، من المهم يتحاشى القرار الموعود ما شاب أغلب القرارات التأديبية السابقة من قبيل:
– المغالاة في العقاب وعدم استحضار أن المادة 34 /ن.أ. ق) في ما أقرت من عقوبات تدرجت بين:
-التوبيخ مع تسجيله في الملف؛
-التحويل التلقائي؛
-الشطب من جدول التقدمات؛
العزل عن بعض الوظائف؛
-خفض الدرجة؛
-تخفيض الرتبة؛
-التقاعد التلقائي؛
-الفصل مع تعليق حقوق المعاش أو دونه.
أن هذ التدرج وجد ليراعي لا ليقفز عليه، وأنه لم يقرر لمصلحة القاضي المعني في المسطرة فحسب، بل لمصلحة القرار التأديبي نفسه؛ إذ بمقدار النسبة والتناسب والتدرج في العقوبة الموقعة يكون التعاطف مع المدان، فحتى الرأي العام المسكون بالميل لكل إدانة تصدر بحق أي مسئول عمومي والقضاة منهم بالأخص، تبنى مظلومية كل من صدرت بحقهم عقوبات من تلك الدرجة. وسيكون على استعداد لتبنى كل مظلمة تتأسس على قرار بالفصل أو التقاعد التلقائي أو تخفيض الرتبة، حتى ولو لم يكن قناعة ببراءة هذا القاضي، فإدانة لجميع نظرائه الذين بنظرة الرأي العام لا فرق بينهم وإياه (فلماذ هو تحديدا دون البقية؟!).
– إعمال الإجراءات الاختيارية المتاحة لرئيس التشكيلة؛ سبيلا لترشيد وتحصين ومصداقية ما تنتهي إليه من قرارات مثل:
ما أعطته (المادة 39/جديدة) لرئيس التشكيلة التأديبية من سلطة بشأن تكليف المقرر المعين من ضمن أعضاء المجلس بالقيام بالتحقيق في الموضوع.
كذلك، تجاوز تعليق (المادة 42) لاستعانة القاضي بأحد زملائه أو إنابة محام على شرط وجود مانع يبرر تغيبه، فيتم السماح له بالجمع بين كل ذلك أي: الحضور الشخصي والاستعانة بزميل يمكن أن يعول في اختياره على الهيئات التمثيلية للقضاة فتتحقق لها الرقابة والمؤازرة، بخلاف توكيل المحامي الذي يتعين أن يتم بمعرفة القاضي وعلى مسئوليته الشخصية، لتعلق مسئولية المحامي بمصلحة موكله حصريا.
-التمكين الفعلي للقاضي، وبوقت كاف، قبل يوم استدعائه من الاطلاع على ملفه وكل وثائق البحث وتقرير المقرر، للإحاطة بما احتوت وإعداد ما يناسبها من رد.
– في أغلب الأحوال لا يتم التقيد في التشكيلة التأديبية بالإجراءات الضابطة لعملها؛ إما بإرادة اللجنة نفسها، أو لتأكد المعرض للتأديب من استهدافه وعبثية أي مجهود يبذل لدرء الإدانة، وإما خلافا لذلك تماما، حين يعتقد القاضي أن الابتعاد عن كل مناكفة مع اللجنة سينعكس على ما يصدر عنها من قرارات.
-عدم تخلى ممثلي القضاة في المجلس الأعلى عن طبيعتهم التمثيلية، وعدم الاصطفاف التلقائي مع التوجه الرسمي للجهات العليا، على خلاف ما حدث مرات حين يُغيًبون أو يَغِيبون عن مساطر التأديب بما فيها جلسات اتخاذ القرار.
بهذا الخصوص يتعين على الهيئات التمثيلية للقضاة الحرص على وصول ذوي الحس النقابي من القضاة لعضوية المجلس الأعلى، وقدر المستطاع التواجد داخل طاقم المفتشية.
-الاحجام الطوعي للمفتش العام للإدارة القضائية والسجون عن المشاركة في عمل التشكيلة التأديبية أو على الأقل عن المشاركة في التصويت على القرار النهائي لها.
في التعريف المبسط للحق في الأمن؛ الذي هو أكسير الحياة ومقدمة كل حق وحرية وشرط التنعم بهما؛ أنه الإحساس الشعوري للشخص بعدم الخشية من التعرض له مالم يقع في تعارض مع القوانين. وحال وقوعه في مثل ذلك التعارض، تيقنه من أنه لن يوقع بحقه من الجزاءات إلا ماكن قرر سلفا لمثل ما وقع منه.
متعهد ذلك الحق وقيومه هو القضاء؛ إذ السلطة القضائية حامية الحرية الفردية بالتعهيد الدستوري (المادة 91) مكلفة بضمان أن لا يعتقل أحد ظلما. وهي وحدها المخولة وفق نفس التعهيد بتقرير الإدانة بما أقر القانون ووفق الصيغ التي ينص عليها (المادة 13/جديدة).
حتى ينعم الناس بحقهم في الأمن لا بد أن يعيشه القضاة، ولن يكون ذلك متأتيا في ظل نظام أساسي للقضاء يخرق الدستور ولا يمنع تغول السلطة التنفيذية ولا يصلح أن يعول عليه في ضمان المسار المهني للقضاة من ولوجهم للمهنة إلى تقاعدهم منها بما ينتظر منه أن يوفره لهم من مقومات الاستقلالية وتكريس استقلال سلطتهم عن السلطتين التشريعية والتنفيذية.