ذهب الذين يعاش في أكنافهم / أحمد سالم زياد

أصبحت بأخرة أقول لنفسي متعجبا: “لقد اختفى ثلاثة أجيال بتمامهم ممن كانوا موفورون عددا في غامبيا، أولهم وأهمهم: 
– الشيوخ بيض اللحى، مرتّلوا القرآن عن ظهر قلب، والذاكرون الله كثيرا، والحاملون الرسالة الشنقيطية الأصيلة، والمجبولون على هدي السلف الأول؛ 
-ثانيا: جيل الشباب (وأقصد معايير و”زارة الشباب والرياضة”؛ وإلا فالشباب شباب القلب ) فقد تناقصت أعدادهم بشكل كبير في المهجر. لقد أصبحت ثقة المجتمعات بالمدرسة أكبر؛ ثم إن في الوطن وظائف (الجيش؛ وأمن الطرق؛ الشرائك الخاصة؛ الصيد؛ الذهب..) لا يتركها ويتعدّاها إلى مغتربنا الصغير هذا إلا قلة، -ربما- توقعوا -أو تُوقّع لهم- مستقبلا زاهرا في مجال المال والأعمال؛
– والثالثة الأغرب، هي: فئة الرجال، سود اللمم،  قويوا العزائم، ممن جمعوا بين قوة الشباب وحكمة الشيوخ. لقد أدركتهم هنا وهم كثير، إليهم المرجع وعليهم المعوّل. يتدخلون في كل أمور الجالية، يصدرون عن رأي الشيوخ الأكبر سنا، ويشرفون على تربية الأحداث وتوجيههم، ويراقبونهم عن بعد بدقة؛ فلا تفوتهم شاردة ولا واردة مما يتصور الشباب الغرّ أنه عالم حريته الواسع.
يقول لنا الأكبر سنا أننا ما أدركنا شيئا من صرامة المجتمع وسطوته على أفراده، فقد كان الكبار يجتمعون يوميا في السوق في وقت محدد لمناقشة أمور متعلقة بالمجتمع -هنا في المهجر- وهناك في مرابع القبيلة. يحاسب الشاب “الفلاني” ويوبخ أمام “الخِتْيَارّية”، ولا يحق له النظر في وجوههم، أو إبداء الامتعاض، ولا الكلام في حضرتهم؛ إلا للضرورة وبمقتضاها الأقصى والأضيق -فيحاسب لأنه لبس “بُلّفْرَيعَاتْ” (البنطال) -نعوذ بالله- أو أُشِيع أَنه -ولله الأمر من قبل ومن بعد- زار ملاعب “سيريكوندا” في عطلة الأسبوع. 
في هذا المجلس توزع على الجميع بتساو الأعطيات المعدة للشعراء والممتاحين والوافدين من أصحاب المكانة، وتناقش القضايا المشتركة بينهم وتفض الخصومات ويفتى المستفتون، وتناقش علاقتهم مع الإدارة التي بنيت على أن “يدَ التاجر ما تشك لبنته”. ومع كل شدة “مجلس الختيارية” على “الأحداث” من الشباب؛ إلا أنه يعمل جاهدا على تعليمهم، وتثقيفهم وتوفير فرص العمل لهم، ومراقبة إن كانت تحويلاتهم المالية تصل إلى أسرهم، وأن شيئا تغير في الواقع البئيس بفضل أولئك الفتية؛ وإلا فإن الثقة تسحب منهم بهدوء ودون شوشرة قد تضرهم مستقبلا، فالحكمة تقول: “أول النهار ماهو شيخ على آخره” وما أكثر ما تصدق!!.
حتى أن أحدهم قد يأتي إلى أسرة أحد الشاب بمبلغ ماليّ على أنه من ولدهم؛ إن هو علم أن الأسرة محتاجة إلى ذلك. وإنها لمسة فنية راقية من فنّ نادر، قليلٌ من يحسنه، وهو فن جبر الخواطر، وإدخال السرور على القلوب. فليس أفرح لشيخ فان أو أم فقيرة من رسالة تأتيهما ساعة عسرة من ابن طالما علقت عليه آمال كثيرة.
جاءت تعقيدات الحياة بعد ذلك بكل إكراهاتها لتملي على المجلس النبيل تطوير هذه الندوة التي كانت تعقد في ظل حائط شركة “مورلبروم” أو على إحدى عربات الحمّالين، وعلى قارعة الطريق وفي الهواء الطلق؛ يشكل بمن حضر؛ ولا يعترض غائب على قراراته؛ ليصبح مكتب جالية.. ورغم خدمات هذه المكاتب المتعاقبة الجُلّى؛ إلا أنها فقدت الكثير من أبوتها الاجتماعية الحانية -وإن بقسوة بعض الشيء- لصالح السياسة القاسية في لين دائما -ولعن الله “فعل” “ساس” “يسوس” “سياسة”.
يبدو أنني ابتعدت كثيرا، وربما اقتربت أكثر من أمور لا مصلحة عندي في الخوض فيها، ولا حماسة لديّ في إذكاء أوار نار لمّا تخمد بعد. وإنها وإن بدت خامدة، بادئ الرأي، إلا أن تحت رمادها نار وشرار وأشرار.
لقد اختفى في العقدين الفارطين كثير من الشيوخ ممن كنت أصدر من عندهم بانشراح لم أعد أجده اليوم؛ كلما انحنيت مسلما على أحدهم، هامسا: “الدعاء بخير”. كنت أكره رائحة التبغ المنبعثة مني أبدا لأنها تفرض عليّ مستوى من الابتعاد يحرمني استنشاق رائحة “البركة” العالقة في أنفي من لدن أيام جدي البركة -عليه رحمة الله. 
قد يكون الجواب واضح في جيلين افتقدتهم كثيرا..جيل كنت منهم، وقد أصبحت نواكشوط وآنغولا وأميركا ودول أخرى كثيرة؛ تنافس غامبيا المسكينة على استقطابهم. فالراتب الغامبي لم يعد منافسا، والعملة الغامبية مازلت تطحن فريسة للحرب الدائرة أبدا بين القويين: الدولار واليورو من جهة؛ وبين (CFa) والدلسي (العملة الغامبية) من جهة؛ وبين الانقلاب المنقلب على رأسه لمعادلة الاستيراد والتصدير بين الأسد السنغالي المتوثب والعقرب الغامبية الرابض باستسلام. 
أما الجيل البركة الذي لن يتككر؛ فقد طوى الردى أغلبهم، وأقعد العجز الباقين. ما أروعهم من جيل وما أكبر منتهم على البلاد التي طردتهم في سنوات شداد، وأخرجتهم من جنة خلدهم الأثيرة في الثلاثينات والأربعينات والسبعينات؛ فغزوا العالم بالعلم والعمل. فكانوا مجاهدين بحق. وما زلنا نحن نعيش في حصادهم التجاري والاجتماعي والاقتصادي والعلمي المتجدد. لقد أدركت رجالا يقول الواحد منهم: “في هذا الشارع كنت أنام، وعلى هذه العربات؛ وإذا فاجأنا المطر -وما أكثر ما يفعل- نحتمي بإحدى العمارات، وهكذا دواليك”. ويقول الآخر: “تحت تلك الشجرة درست الكتاب “الفلاني” والكتاب “العلاني”. أما ابي -رحمه الله- فيقول: “كنت ولِدَاتِي (عَصْريِ) نتفاخر على بعضنا أينا حسّن من وضع أهله أكثر أو صحح من وضعهم”.
يقول لي أحدهم أفضل نومة أنامها في حياتي هي أن أنتقي علبة من الورق المقوى (كرتونة) من نوع من الأحذية المطاطية يُسّميه، ثم أفترشها -بعد يوم شاق- أمام المحل الذي أعمل فيه. حدثني أحد شباب الستينات الثائر يومها -رحمهم الله- أن أول غرفة خاصة استؤجرت خارج الدكاكين؛ هي غرفة استأجرها هو في منتصف الستينات؛ وقد أثارت ضجة كبيرة، وغضبا من “الخِتْيَارَة” (جماعة الحل والعقد -رحمهم الله.) وحراس الفضيلة بنبل وحق!!
أبحث أنا بمصباح ديوجينوس في وضح النهار  عن الجيل الوسط، والذين أدركتهم مالئين الدنيا وشاغلين الناس، فلا أجدهم.. إنني -للأسف- أخطو خطاي الأولى عمريا فأتعمق عاما بعد عام في مجالهم العمري، لكنّ العمر لم يكن وحده هو مميزهم ولا الشرط في الانتماء إلى ندّيهم المجيد. ربما تتفلسف -أنت- وتقول أن الأجيال الجديدة من الأحداث لا بد أنها تنظر إلي وإلى جيلي بنفس النظرة التي كنت أنظرها إلى رجال الحلّ والعقد، ونفس النظرة التي أنظرها إلى الأكبر سنا ممن تلتمس بركتهم. ربما يكون ما قلت دقيق أوقريب من الدقة، لأن أغلب تقديرنا للأشياء، وحتى تقديسنا لها؛ هو شعور داخلي فينا؛ أكثر مما هو موجود كقيمة ذاتية لتلك الأشياء. لكن، أؤكد لك -وأنا لا أعدم قوة ملاحظة- ورغم عاطفيتي المزمنة؛ أن هناك فرقا كبيرا جدا وواضحا بين أولئك الذين رحلوا بإحترامهم واحترامهم لقيمهم؛ وكل الذين جاءوا بعدهم. وأختصر لك القول: “إن الرياح الجيدة لا تصنع ملاحين جيدين”؛ ونحن -أنا والأجيال التي تربيتُ في كنفها- لم نلق من المحن ونكبات الحياة ما يجعلنا جديرين بأن نكون مصداق المقولة: ” خير خلف لخير سلف”. أعرف أن الجيل الذي احتضنني أنا وجيلي هو جيل مميز جدا بمعايير اليوم، لكنني -حتى وقد بدأوا يطرقون باب الستين والسبعين- إلا أنني لا أتصورهم إلا أولئلك الشباب الذين أفقت أول ما افقت عليهم وهم في روعة شبابهم. لقد أدركت الأربعيينيَ معدودا مع الكبار سمتا وهديا ودلّا، فلا تتميز لحيته الكثة عن زملائه في الصف الأمامي في المسجد إلا أنها سوداء فاحمة أو أن الدهر بدأ على -استحياء فج-  يزينها بشعرات بيضاء، تزيد سكينة وجوهمم وقارا. أما اليوم فإنني -أنا والشباب العتيد الذين ربّوني- لا نزال نتمسك بقصّات رؤوسنا الأولى؛ ما أمكننا الصلع وعاديات الدهر من ذلك؛ وإن اللحية إذا لم تفد فيها “الصباغة” و”التهذيب”؛ أدركها “الإحفاء” و”الإخفاء” و”التذهيب”!!